د. عبدالله باحجاج
"حكومتنا لا تقبل النقد".. هذا ما كشفه سعادة يعقوب الحارثي نائب رئيس مجلس الشورى يوم الإثنين الماضي في لقاء مع إحدى الإذاعات الخاصة، مما يجعلنا نتوقف عند هذا الانكشاف، ونتساءل: لماذا تهاب الحكومة النقد؟ وهل رفضه أو قبوله من صلاحيتها أم أنَّ النقد قد أصبح حقاً بحكم التطورات السياسية وطبيعة الدولة الجديدة للنهضة المتجددة؟ وهل عدم قبولها للنقد له علاقة بقرارات التوظيف الجديدة التي كشفت عنها وزارة العمل خلال الساعات الماضية؟
ولو وضعنا انكشاف الحارثي في سياقه "الزمني والسياسي" سنكتشف أن الرفض يحمل صوتا من الماضي، لا مكان له في واقعنا المُتجدد، وعندما نربطه بقرارات وزارة العمل الجديدة، بدا لنا المشهد، وكأننا نبحث عن الحلول من داخل صندوق النخب الوزارية السابقة، كتعمين مهنة سياقة المركبات، فمثل هذه الأفكار قد جربت سابقًا، وفشلت، فما الجديد الذي يجعل الوزارة تنسخه مجدداً؟ ربما الاعتقاد بأنَّ صناعة القلق سيكولوجيا طوال عام، وانقلاب الأوضاع المالية، والخوف من تداعياتها الاجتماعية؛ ستكون كفيلة الآن بقبول الذهنية المجتمعية والشبابية بما قد رفضته في الماضي.
وهنا نتساءل: هل لدى وزارة العمل استشرافات علمية بنجاح القديم الجديد الآن؟ أم هي توقعات وتخمينات مبنية على تداعيات القرارات والسياسات التي اتخذتها الحكومة منذ يناير 2020؟ وهذه من أهم التساؤلات النقدية التي ينبغي أن تطرح على معالي الدكتور وزير العمل أثناء لقائه التلفزيوني الحكومي أو على المؤتمر الصحفي للوزارة المقرر يوم الأربعاء المُقبل، ونتمنى أن يكون اللقاء والمؤتمر نقديًا حتى يكونان في مستوى قضية الباحثين عن عمل التي لا تقبل سوى الحلول التي تلامس واقع ومستويات 65 ألف باحث، وتفتح الآمال.
ربما في مثل هذه السياقات، يرفض النقد الذي أشار إليه سعادة يعقوب الحارثي، ومهما كانت ملابساته أو دوافعه الحكومية، فهو- أي الرفض- لم يعد صالحاً لمرحلتنا الجديدة، فهو وليد مرحلة ولت بكل معطياتها وظروفها وشخوصها تقريبا، وتم تدشين مرحلة العهد الجديد على مبادئ الشفافية والصراحة والمساءلة والمحاسبة، وقد احتوتها كيانات دستورية وقانونية جديدة، كإقامة لجنة تتبع المؤسسة السلطانية لمتابعة وتقييم الوزراء والوكلاء ونظرائهم الذين لهم علاقة بالشأن العمومي، كما تمثلت في استصدار نظام الحوكمة وتفعيل الجهاز الإداري للدولة، ولايُمكن للحكومة أن تراقب ذاتها بذاتها، وتستغني عن الرقابة المستقلة من مختلف مصادرها، وهنا يأتي دور النقد رقابة مجلس الشورى.
وهذه الحكومة التي ترفض النقد، هي أول حكومة في العهد الجديد، وقيل إنها اختيرت من تكنوقراط وشباب يعول عليهم تحقيق أجندات وطنية ضخمة، تستوعب أخطاء الماضي، وتنطلق بالبلاد إلى مصاف الدول العالمية الكبرى، باقتصاد متعدد ومتنوع ودون نفط أو غاز، وتعليم عصري يواكب ثورة التقنية.. إلخ فلم ترفض النقد؟
ومن يكون من ومسؤولياته تحقيق الأجندة الوطنية التالية:
- إعادة بناء النهضة العمانية بصورة متجددة، وبطموحات عالية، وفق رؤية "عمان 2040" التي تأتي على أنقاض عدم نجاح "رؤية 2020"، واختيرت لهذه الرؤية نخب وزارية وعامة جديدة، حلت محل نخب قديمة، كانت وراء فشلها بسبب تحصينها من النقد والمساءلة والمحاكمة حتى أنتجت الفشل المتراكم الذي يدفع ثمنه غالياً المجتمع من فاتورة مأكله ومشربه ومسكنه.
- وضع وتنفيذ خطة مالية مدتها أربع سنوات، روعي فيها تحقيق التوازن المالي لمواجهة الأزمة المالية التي تعاني منها بلادنا، وفيها من الآلام الاجتماعية البنيوية المتصاعدة، وأنيط بتطبيقها كذلك السلطة التي أعدتها.
فهل مثل هذه الأجندات الوطنية تترك دون نقد أو رقابة مستقلتين؟ بل هما من الرهانات الأساسية لنجاحها، ولنا في "رؤية 2020"، الأساس الذي نبني عليه، ففشلها لم يحمل واضعيها أو منفذيها، وترك المجتمع يدفع الثمن غالياً، فيما ثرواتهم تئن بها البنوك الخارجية، ويرفضون حتى عودتها للبلاد للاستثمار فيها. لذلك، فمرحلتنا الوطنية ليس أمامها من خيار سوى التسليم بالنقد، لأنَّ كل شيء فيها واضحاً، فرؤية 2040 واضحة بأهدافها وآلياتها وميكانزماتها، وكل من يتبع خرائطها المرسومة، فلن يقلقه أو يخوفه نقد عضو في مجلس الشورى أو صحفي أو في وسائل التواصل الاجتماعي، بل العكس، سينتج له النقد رؤى تعزيزية للتنفيذ، وسيرى أداؤه من منظور النتائج على الأرض.
كما إنه لم يعد خيار الحكومة قبول النقد أو رفضه الآن، فقد أصبح من الحقوق السياسية والاجتماعية؛ فسياسيا، كل من يفشل عليه الرحيل سريعا، فلماذا التمسك بوزير أو مسؤول كبير لا يصنع النجاح، وهذا لن يتأتى إلا من خلال نجاعة النقد وفعالية مجلس الشورى، وهاتان "النجاعة والفعالية" مرتبطتان بمهنية النقد والرقابة، وديناميكية الصراعات الإيجابية التي تخدم الصالح العام.
ومن الناحية الاجتماعية، فقد أصبح كل مواطن يساهم في موازنة الدولة السنوية من خلال منظومة للضرائب والرسوم ورفع الدعم الحكومي عن الخدمات الاجتماعية الأساسية، وما دام كذلك، فمن حقه وحق ممثليه الدستوريين وصناع الرأي ممارسة النقد للاطمئنان على سلامة تحصيلها وتجميعها ومسارات إنفاقها وطرقها، فهذا من الحقوق الأصيلة للمواطن بعد أن تغير أساس العلاقة التي تقوم عليها الحقوق والواجبات بين الحكومة والمجتمع، بالنسبة للأولى قائمة على الجبايات، والثاني دفع الجبايات بقوة القانون، واعتبار الامتناع عنها جريمة يعاقب عليها القانون بعقوبات مشددة.
ونخرج من هذه الرؤية التحليلية التي تعلي من شأن النقد في عهد النهضة المتجددة، بأن الحكومة وفق سياقات انبثاقها التاريخي، والغايات الكبرى التي أنيط بها تحقيقها، يصبح النقد من بديهيات الحقوق التي لا مجال التنازع فيها، ويفترض من النخب الوزارية الجديدة، قيادة النقد وتقبله، لأنها أول حكومة في العهد الجديد، فأهم أسسه- أي العهد الجديد- الشفافية والمساءلة والمحاسبة.. وقد أكد عليها عاهل البلاد- حفظه الله- في أول خطاب له، ويكررها في كل خطاب، وهذا يشكل ضمانة سياسية للنقد، فكيف ترفضه الحكومة يا سعادة نائب رئيس مجلس الشورى؟ رحم الله سلفنا الصالح الذين أسسوا لنا مفهوما مستداما للنقد، سبقنا به سائر الأمم، فقد كانوا يقولون "إن أحب النَّاس إلينا من أهدى إلينا عيوبنا".