"سمحة".. الرواية المنسية

 

 

عبدالله الفارسي

 

حقيقة لقد سمعت عن رواية "سمحة" المنشورة حديثا، وسمعت عن كاتبها الجميل، كما سمعت عن قصة "سمحة" المُفجعة الحزينة، وأمواتها الكثر.

كل من أنجبته هذه المدينة وشرب من بحرها سمع قصة سمحة، كل من وقف على خور البطح متلهفاً منتظراً غنجة أو بوماً قادماً من الهند أو أفريقيا سمع قصة سمحة. كل من عشق صور المدينة والتاريخ سمع قصة سمحة وذرف على خده دمعة حرى، لقد سمعناها من آبائنا ونسيناها، كما نسينا أجدادنا. نسيناها ككل ماضي مدينتنا الشامخة وقصص أجدادنا الباهرة التي سمعنا عنها، وأتلفناها بحجة وهن الذاكرة وجبروت النسيان.

أذكر أنني مررت ذات نهار على رواية سمحة في مكتبة فينيق، في شهر يونيو الماضي، رأيتها واقفة كعروسة خجولة مُنقبة، يملأ أصابعها الحناء ويجلل وجهها الكبر والحياء.

كنت أراها ولا أعرف قيمتها، ولا أعي ضخامة قلبها، ولم أدرك عبق صورها وأحداثها.

وذات مرة تصفحتها على عجل، وأهملتها، كما أهملت كل الأشياء الجميلة التي تركتها على عجل، ومازال الندم يأكلني عليها.

وذات مساء وصلت الرواية إلى بيتي مُباشرة، في ظرف جميل قدمها لي الأستاذ خالد المخيني، كاتب الرواية المُبدع. وحين بدأت في قراءتها لم أتوقع أن تكون "سمحة" بذلك الزخم، لم أتخيلها بذلك الجمال، لم أتوقعها بتلك الروعة، لم أظنها بتلك العظمة وذلك الإبهار.

عظمة الرواية كانت مُتطابقة مع عظمة السفينة الغارقة.. عظمة الرواية كانت متناغمة مع عظمة الرحلة الأخيرة لـ"سمحة" المنكوبة.. عظمة الرواية كانت متناسقة تماماً مع عظمة موت المائة وأربعين إنساناً في ذلك اليوم العاصف المشؤوم.

أبدع الأستاذ خالد المخيني في رسم القصة وتلوينها بكل ألوان التشويق والإثارة، لقد اتقن لعبة مزج الألوان باحترافية رسام ماهر، لقد مزج زرقة البحر، مع حمرة العاصفة وخلطهما بسواد الكارثة.

لقد أبدع الكاتب في التلاعب بالألوان إبداعاً عجيباً، فخرجت الرواية لوحة فنية في غاية الروعة والإبداع، لكن المبدعين عندنا غالبا يكونون خارج النص.. خارج المكان.. إنهم يبدعون بصمت.. ويتحدثون بصمت.. ويختفون بصمت.. فليست كل الأوطان وطنًا للمبدعين.

لقد حبك الكاتب روايته بطريقة لافتة وجاذبة.. نسجها بمهارة كثوب صوري مطرز.. صاغها بروعة كخنجر عُمانية أصيلة.

حين تقرأها تشعر بأنك أحد بحارتها.. حين تدخل سطورها تشعر بأنك قبطانها.. حين تعبر سطورها تشعر بعبورها البهي في البحر وشموخها العظيم في المحيط.. حين تلتهم عباراتها تشعر بصفير حبالها تصهل في أذنيك.. حين تجتاز صفحاتها تشعر بصهيل شراعها يقتحم صدرك ورئتيك.

سمحة ليست مجرد قصة سفينة منكوبة.. سمحة تاريخ لمدينة كانت يوماً ما أسطورة بحرية.. سمحة تاريخ لمدينة تزوجت البحر، فأنجبت منه ربابنة وبحارة لم تكتب عنهم الأقلام، ولم تؤرخهم الصحف.. ربابنة عشقتهم الأمواج، ونواخذة سطرت أسماءهم الحيتان ونقشت صورهم الخلجان.

أبدع الكتاب خالد المخيني في تأريخ هذه السفينة، وتأريخ الحادثة التي أصابت المدينة في مقتل، فرفرف الحزن سنوات في شواطئها، وبكت النساء طويلاً على سواحلها.

سمحة السفينة العملاقة المهيبة التي صرعتها العاصفة، وابتلع البحر أحلام رجالاتها، ودفنت الأعماق أعمار أطفالها ونسائها.

سمحة تاريخ محزن مشرق يعرضه الكاتب الفذ خالد المخيني بطريقة لذيذة شهية، مُمتعة ماتعة، وكأنك تتناول سمكة سمينة مشوية على ضفاف بحر ثرثار يحكي لك قصة عشق وغرام.

شكراً خالد المخيني.. شكراً لروايتك الرائعة التي غمرتني بالمتعة وأغرقتني بالدموع.. ورحم الله ضحايا "سمحة" الخالدة.