فلسفة " أنا أعلم"

 

فاطمة الحارثية

 

أقبلنا على العِلم مذ أدركنا الوجود والحياة، فحدث التلقين الأوَّل من أهلنا وأٌقراننا، ثم جاءت الحضانة لتضيف إلينا عجائب جديدة، نخوض بها مضمار استكشافها، تبعتها مراحل التعليم الأساسي، لنتطبع بمن حولنا في بواكير محاولات تشكيل هويتنا، ثم مراحل التعليم العالي، حيث شقاوة الأنا والحلم والطموح والإقدام نحو الأفق، ورفع شعار "ها أنا ذا موجود"، وبعدها رحلة الدراسات العُليا، حيث العمق في جزء مُستطاع، ليصحب شعار "أنا أعلم" معظمنا في جميع تلك المراحل دون كلل أو تردد.

نعم عزيزي القارئ أنا أُدرك أنَّك تعلم، وأعي أنك في حيز الوجود، كيان أخذ من الحياة ما استطاع، وشرب منها حسب سعته، وربما لا تحتاج إلى تذكير أو إعادة أو نصح، لكن عليك قبول أنَّ معظمنا إن لم يكن كلنا نعيش ذات المعتقد، ونؤمن أننا أيضاً نعلم، وربما نحمل ذات الظن الذي تحمله عنَّا عنك. فجميعنا ارتاد مناكب العِلم، ودور الثقافة ليتزودوا بالمعرفة والعلوم المختلفة؛ وأسس من شاء منِّا مفاهيم خاصة، وصنع نظريات حاول الاختلاف فيها والتميز، وجمع ما جمع من تجارب، قد تتشابه مع تجاربك، لكن حتماً اختلاف التأقلم والقبول والفهم صنع فكراً مغايرًا لا يُشبهك، وأضف إلى ذلك ممارسات ردود الفعل والتفاعل مع الحياة بشكل عام، وأيضاً القدرات الذاتية، ليبلور ما تلقاه في صُنع متفرد، يجمع خلاصة تجارب حية ومُحاكاة على وقع تفاعل حياته العامة والخاصة؛ وبالرغم من كم ونوع وعمق العلوم المختلفة والخبرات والمهارات التي قد يقتنيها ويُتقنها الناس ويُجمعوا عليها، يبقى قول الحق تعالى " وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ".

القليل منِّا استطاع أن يُوصل ويشارك حكمته وعلمه وفكره وخبرته مع الآخرين، وينفع النَّاس، وهنا تأتي أيدولوجية التنظيم القيادي كجوهر يُشكل الاستقرار والبقاء، إننا حين نحاول أن نقود أنفسنا نحو الأفعال التنظيمية المختلفة بهدف كان أو برغبة، فإننا نضع توقعات معينة، وما هذا الفعل إلا إطار ينتهك الطموح، وبرهان أننا نقوم بفعل "التحيز" ربما دون إدراك منِّا. وطبيعة أنَّ معظم الأعمال إن لم يكن جميعها لابد من أدائها بصورة جماعية، لتحقيق تمام أهدافها، نجد أننا نقف أمام كينونة وتحدي عملية توكيل الأعمال أو تفويضها، والتي ترتكز في الغالب على تقييمنا وحكمنا على الموكل إليه، وأيضًا قدرتنا على تطويعه، ومداه الفكري الذي هو في الغالب قريباً أو شبيهاً للمُوكل، قد يعترض البعض على قولي هذا، لكن هي حقائق وواقع نعيشه كل يوم، من المنزل حين يوكل الوالدان بعض الأعمال لأحد أبنائهم دون الآخر، ويُتوقع من الأبناء منذ اليوم الأول أن يقوم بها كاملة أو كما يقوم بها الأب أو الأم، ولا يختلف الأمر عن الحياة الاجتماعية، حين يقوم الأصدقاء بتفويض أداء بعض المهام بينهم، وقد تكون بسيطة لكنها تبقى أعمال يعتمد الموكل على الموكل إليه في إنجازها، ونجد أن الأمور تزداد تعقيداً في بيئة العمل، حيث نجد بعض التشابه في أُسس توكيل المهام والأعمال في سُلّم القيادة التنظيمية، فنجد أن بعض الأعمال التفويض عليها لا يعتمد على الكفاءة بل على التفضيل، مما يُبرهن على تدخل الأحكام العاطفية/الشخصية والمصلحة، وهذا يؤثر سلبًا على المنظومة السليمة في اتخاذ قرار التفويض أو التوكيل، فيُعطى الأمر لغير أهله، وتُمنح السلطة لضعاف الفكر وأهل الفساد والمصالح الخاصة المشتركة، وهم بدورهم يشكلون الأحزاب، ويوكلون الأعمال لأشباههم، في تنظيم بيئي أٌقرب ما يكون غوغائيا ومُهلكا؛ من جانب آخر نجد أن نظريات التفويض قد تعددت، وشكلت عوامل تجريب تلك النظريات تحديا حقيقيا، وعدم القدرة على تطبيقها بصورة عملية، لأنه يصعب التنبؤ أو إدراك ردود فعل الناس بعد منحهم السلطة أو توكيل الأعمال لهم، وبسبب تقلب طبائع الناس، وهذا يُضعف النتائج، وأيضاً لحساسية موقع التجربة وأثرها العميق في حياة العامل وخوفه على سمعته ومصدر رزقه.

 

سمو...

أعطى الله الخالق لكل منِّا فُرصاً، ولا جدال في أنها كثيرة، وزينها بالتخيير، فتذكر يوم يقول لك سبحانه: " اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا".

 

فاطمة الحارثية