ولاية العهد.. رسوخ حكم ونهج طمأنة

حمد بن سالم العلوي

كانتْ الفترة التي مرض فيها المغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- فترة قلق وهواجس، ليس من جانب التجار ورجال الأعمال والمستثمرين الأجانب وحسب، وإنما الجميع كان يشعر بقلق على مستقبل الوطن؛ فمسألة وراثة الحكم كانت مشوَّشة وغير واضحة، رغم وجود الرسالة التي أشار إليها النظام الأساسي للدولة السابق.

والناس على حق في بعض القلق لغياب التجربة، فظل الوريث مفاجأة كبرى للجميع، عدا قلة من الناس الذين كانوا يراقبون الوضع بهدوء، ويستنبطون المعلومة مما عرفوه عن حكمة وفطنة الراحل -تغمَّده الله بواسع رحمته. وربما أن حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- كان يعرف بهمس العقل أنه الأقرب إلى خلافة العرش العُماني، لأن السلطان الراحل -رحمه الله- كان يقرِّبه منه كثيراً في مواضع مهمة وخاصة، بل ووحيداً في المواقف المفصلية من الأعمال السياسية، وكذلك تكليفه بالإشراف على الرؤية المستقبلية "عمان 2040"، ما هي إلا واحدة من اللمحات الذكية التي كان يلمِّح بها السلطان المؤسس خالد الذكر أعز الرجال وأنقاهم.

فقد كان المغفور له بإذن الله تعالى يستخدم التورية عن الناس حتى لا يعرفون السلطان القادم لعُمان من بعده، فكان في كل فترة يُركّز على شخص معين ممن يحق لهم وراثة العرش، فترى الناس يميلون إلى تلك الشخصية، ويتزلفون إليها بالتقرب، فتعبت أعصاب الناس وزاد بهم القلق، حتى إنه لما أشتدّ المرض بالسلطان قابوس -عليه رحمة الله ورضوانه- قيل إن بعض التجار والمستثمرين بدأوا في التخارج بأموالهم إلى دول أخرى، خاصة وأنَّ بعض دول المنطقة كانت وما زالت تدير ماكينة إعلامية غير صادقة وغير مهنية، لم تترك حيلة أو صنفاً من الأكاذيب والدعاية إلا وعملت عليها، بغيتهم أن يروا عُمان بلداً فاشلاً كفشلهم هم في الحياة، فلا شك أنها أثرت في ضعفاء النفوس، وأرجفت قلوبهم بالخوف، أما الراسخون بإيمانهم ووطنيتهم، فلم تهتز لهم شعرة من ذلك التهويل.

إذن؛ هناك قلة من الناس كانت تعرف بالتحليل والاستنباط، أن السلطان القادم لعُمان سيكون قريبا جداً في الشبه والفكر من السلطان قابوس -رحمه الله- فقد كان لي صديق خاص أثق في تحليلاته بعد التجربة، لأنه ما كان يُعطي رأياً تحليليًّا في توجهات السلطان الراحل قبل أن يتخذ قراراً مفصلياً في أمر من الأمور المهمة، إلا ويحالفه الصدق في تلك التحليلات التي يبديها، لذلك كان يقول لي قبل وفاة السلطان قابوس إن الوريث بإذن سيكون "سمو السيد هيثم"؛ فسألته عن رأيه بعدما شاع خبر وفاة السلطان قابوس، فقلت له: إن الناس يقولون غير الذي قلت عن وراثة الحكم، فقال: أُجزم إن فُتحت الرسالة فإن السلطان القادم سيكون "سمو السيد هيثم"، وعندما فُضّت الرسالة وأتت باسم السيد هيثم "سلطاناً لعُمان"، عندئذ سألت هذا الصديق كيف كان يَصْدقُ تحليلك واستنباطك للمعلومة، فقال ببساطة: عرفت كيف يفكر السلطان قابوس -رحمة الله عليه- منذ أمد بعيد، فعرفت أنه سيختار الشخص الذي ترتاح له نفسه، وبوسعه حمل الأمانة وأن يكون أمينا على عُمان وأهلها، وهو الشخص الذي كان قريبا من قلبه، ألا وهو جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله وأبقاه.

لقد أصدر أمين العهد السعيد جلالة السلطان المعظم النظام الأساسي الجديد للدولة، وكان ذلك أمراً ضروريا للمرحلة المقبلة لأسباب عدة؛ أولاً: بهدف تنقية النظام السابق مما شابه وعلق به من خلط وإرباك حتمته ظرفية عام 2011؛ حيث أُدخلت عليه بعض المواد القانونية، ولم تكن ضمن سياق النظام الأساسي للدولة، وذلك ما قاله لي أحد المتخصصين في القوانين الدستورية، لذلك صدر قانون مجلس عُمان رديفا لاحقا للنظام الأساسي الجديد، حتى لا يحدث فراغ قانوني عندما يَلغي النظام الأساسي للدولة الجديد النظامَ الأساسي السابق، وهكذا تم. وثانياً: ليُجلي الغموض عن ولاية العهد، طالما نحن نقر نظاماً سلطانيًّا وراثيًّا، فلا بد من تحديد ولاية العهد لأجل رسوخ الحكم، وبيان نهجه ليعطي طمأنينة للجميع في الداخل والخارج.

لقد أتى النظام الأساسي الجديد في صدارته، وفي المادة الخامسة منه بجوهرة التاج لهذا النظام، ألا وهي "ولاية العهد" مفصَّلة وواضحة، ولا لبس أو غموض فيها، فطالما أقرت الدولة العُمانية الحكم الوراثي السلطاني فيها، وجب عندئذ أن يكون نظام الحكم واضحا وصريحا ولا لبس فيه، ولا اجتهاد ولا اقتباس من نظم أخرى، ولا تخمين أو استنباط أو تحليل، فكما أن السلطان الحاكم معروف معلوم، فإن من يليه في الحكم هو كذلك واضح ومعلوم، وبذلك لا فجوات ولا غموض في منهج الحكم العُماني.

إذن.. لا شغور في حكم السلطنة -حتى ولو لدقيقة واحدة- لأنه مع إقرار النظام الأساسي للدولة الحالي، وبهذه الصراحة والوضوح من التفاصيل، فإن ولاية العهد للابن الأكبر للسلطان.. وهكذا دواليك، فلا نزاع ولا اختلاف فيه بعد الآن، ولا أطماع ترواد البعض، ولا تنازع بين من ليس لهم حق فيه، وإنما على ولي العهد أن يعدّ نفسه ويهيّئها للحكم من اليوم الذي يعقد فيه العقل. وهنا أغلق باب التنافسية على كرسي الحكم، وظلت أبواب التنافس على خدمة عُمان، ورفعة شأنها والرقي بأمجادها مفتوحة ومشرعة، أما من هرب بماله ليترك عُمان تغرق -كما خُيل زورا وكذبا له- وهو بعيدٌ عنها، فنقول: لا أهلاً ولا مرحباً بعودة أموال ضن بها وجعلها أكبر وأهم من عُمان وسلطانها وأهلها، فلدينا العدد الكافي من العُمانيين المخلصين، الذين جعلوا دماءهم وأرواحهم رخيصة في سبيل عزة وكرامة عُمان وعز سلطانها، وقيل في الأمثال: "رُبَّ ضارة نافعة"، فقد كشفت الصعاب من لعُمان ومن لخيراتها فقط.

وختاماً.. لا يسعنا إلاّ أن نقول شكراً مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان (الأمين) هيثم بن طارق المعظم -حفظكم الله ورعاكم وأيدكم الله بالتوفيق والسداد- لقد كفيّتم ووفيّتم رغم أنكم ما زلتم في بداية الطريق؛ فالنظام الأساسي للدولة الجديد، ركيزة مهمة للرؤية المستقبلية التي بدأت مع بداية هذا العام، ولن نحتاج بعد اليوم إلى محللين أو مُنجمين لنعرف ماذا سيحدث غداً، فكل العمل يسير على بصيرة ونهج واضحين، وإن سرعة الاستجابة لمتطلبات الوطن والمواطن، تشعُّ بأضواء ساطعة على طريق المستقبل لعُمان الخير والعطاء، ونحن نعلم ما صنع المرحوم السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- ولن ننكر ذلك الصنيع أبداً، ومسار جلالتكم في الحكم وإدارة الدولة إنما يمثل نهضة متجددة، والمرحوم -طيب الذكر- كان ولا شك قد اطلع على المسار المستقبلي لرؤية "عُمان 2040" وباركها بثقة ويقين.. فسِر يا مولانا على بركة لله، ومعكم ولي عهدكم الأمين وأسرتكم المالكة الكريمة، والشعب العُماني الأبيِّ، وكل أجهزة الدولة رهن إشارتكم، وفي حكم طاعتكم التامة، لترقى عُمان المجد سلّم العُلا، ولتبلغ في رقيها الأنجما.