صفية

عبدالله الفارسي

"الفقراء أقمار الكون المُظلم".. طاغور

هل تذكرون حين صرَّحتُ أمامكم ذات مقال بأنَّ الحياة تذهلك ذات أحيان بقصص.. بحكايات.. بأشخاص رائعين.. يكادون أن يكونوا لا ينتمون لهذا الواقع الموبؤ بالقبح.. المزروع بالغثاثة. ذات أزمان يكون الرائعون ضرباً من ضروب المستحيل.. صنف باذخ من صنوف الخيال. إنِّهم البشر المذهلون.. كأزهار الأوركيد... حين تنمو وترقص في قيعان تعج بالديدان والضفادع؛ كالمرجان الأحمر حين ينتصب شامخاً في أبراك القرش ومخابئ الأخطبوطات.

لا أدري لماذا أعشق الكتابة عن الفقراء.. وأتأثر بمواقفهم.. وانبهر بروعتهم.. وأذرف الدمع عشقاً لهم وهياماً بهم. لا أعلم لماذا لا أحب الكتابة عن الأغنياء مع احترامي لهم .. لا أستسيغ تسطير إنجازاتهم ولا أحبذ توثيق بصماتهم  وإن امتلأت أصابعهم بالجوز .. لا أستسيغ عناقهم وإن تعبأت أرواحهم باللوز .. لا أعشق الجلوس معهم وإن امتلأت صدورهم بالفستق.. لا احتمل الدردشة معهم وإن فاحت روائحهم بالريحان والزعفران.

كنت أشاهد فقرة من برنامج صباح الخير في قناة التلفزيون العربي.. فعرضوا فقرة تتحدث عن فتاة سودانية فقيرة جداً.. لكنها عظيمة جدًا. بسيطة جدًا لكنها رفيعة جدًا.. مُعدمة للغاية لكنها ثرية جدًا.. شاهدت الفقرة والتي لم تتجاوز السبع دقائق عشتها كأنها حياة مديدة.. وقرأتها كحكاية أسطورية طويلة..

كان قلبي يرفرف معها كفراشة صغيرة.. بهيجة بالشمس.. سعيدة بالضياء. اغرورقت عيناي بالدموع حباً تأثراً بها.. وحباً لهذا الصنف من البشر .. واعترافاً بأرواحهم الطاهرة.. الرائعة.. الساحرة التي تجبرك على أن تنصب هامتك عشقاً لهم.. وتحني قامتك هياماً بهم.

"صفية جسكا" فتاة سودانية صغيرة من الجنوب السوداني تعيش في الخرطوم، فتاة بسيطة فقيرة تنتمي إلى أسرة فقيرة جدًا، وتقطن بيتاً طينياً متهالكاً لا يحوي أي شيء من وسائل الرفاهية الحديثة، لا ثلاجة.. لا مُكيف.. لا مقاعد وثيرة.. ولا أسرة ناعمة رقيقة ... ولا ستائر ملونة فارهة.. لا مكيفات سامسونج.. ولا مراوح باناسونيك.. لا "لاب توب" ولا فرن ولا جهاز تدفئة.. ولا مغسلة ولا مكنسة كهربائية ولا خلاطة عصائر طازجة.. لا شيء إطلاقاً من كل هذه الرفاهيات والنعم والكماليات التي تتكدس في منازلنا وتزدحم بها قصورنا.

تعيش صفية في بيت كأفقر بيوت الفقراء.. خالٍ من كل شيء.. إلا من المحبة والألفة.. إنِّه بيت يتدفق بالحب ويشتعل بالوئام. حين ترى الأب والأم وأطفالهم وهم يفترشون حصيرة مُمزقة مهترئة.. ويجمعهم صحن من طعام رديء تقتحم قلبك الدهشة.. إنِّه طعام الفقراء في كل العالم.. طعام لا يُوصف.. لأنه ليس بطعام.. بل هو شيء يُمضغ بقصد سد الرمق ويبلع بهدف إطلاق الأنفاس في الجسد.. تراهم جالسون على مائدتهم البسيطة كعصافير النيل تملأ قلوبهم البهجة والرضا والفرح والسرور.. وشكر الله.. لا يأكلون طعاماً بقدر ما يتناولون الفرح ولا يشربون شيئاً بقدر ما يحتسون الحب والألفة. تعلو وجوههم ابتسامات الحب لبعضهم.. وتلمع عيونهم بالقناعة والرضا والفرح.. يجمعهم حب ينبع من قلوبهم.. وتربطهم ألفة تسيل من أرواحهم.

صفية الصغيرة الفقيرة، تجاوزت كل هذا العدم.. تخطت كل ذلك الفناء.. انتصرت على كل ذلك الموت وحصلت على المركز الأول في مرحلة التعليم الأساسي على مستوى مدينة هائلة كالخرطوم ذات التسعة ملايين نسمة..

شيء عجيب..شيء مُذهل.. شيء يدغدغ المشاعر ويُلهب الأفئدة.

رغم كل ذلك البؤس والعوز والنقص والفقر.. كان هناك التحدي والفوز والانتصار والارتقاء والارتفاع والتجلي.

 

حين استمعت إلى صوت الفتاة صفية وهي تتحدث عن نفسها لفت نظري جمال عينيها وصفاء روحها ونقاء قلبها وحبها العميق لهذا العالم القاسي، شدني تعلقها الشديد بهذه الدنيا الظالمة البائسة.

قالت صفية ساندة كل نجاحها وتفوقها إلى أسرتها الفقيرة: "أسرتي هي ثروتي الحقيقية التي تدفعني للتفوق والتحدي"، كما صرحت.

كم أنت عظيمة يا صفية.. أسرتها لم تقدم لها شيئاً سوى الحب.. لأنها لا تملك شيئاً آخر غير الحب تقدمه لها. الأسرة هي التي ترسخ التحدي.. وتبني القلوب.. وتزرع الأرواح الجميلة.. وتنتج القلوب البهيجة. الأسرة هي من تصنع العظماء... وترفع الشرفاء.. وتخرج المخلصين.. وتنثر المبدعين.

كثير من أهل القصور وأصحاب الدثور، المُتكئين على آرائك من سندس واستبرق وحرير، لديهم الكثير من البنات والبنين؛ لكنهم لا يملكون مثل صفية العظيمة. لأنَّ مثل صفية لا تولد في القصور، ولا تعيش فوق الرخام ولا تنبت في الحرير.. ولا تتنفس في الثراء.. ولا تسطع في النعيم.

أمثال صفية ينبثقون من الطين، ويولدون من الدخان، ويمشون في الأشواك ويخرجون من الحضيض ويشرقون من جلباب البؤس ويسطعون من ظلمة الحرمان.

"صفية" تغسل الصحون.. وتكنس البيت.. وتطعم الدجاج.. وتنظف الثياب.. وتنفخ على النار وتطفيء التنور.. وتحمل على ظهرها الماء والألم .. والعذاب. وفي قلبها يمرح الأمل والنور والجمال.

صفية تُعانق أمها في الصباح.. وتذاكر لإخوتها الأربعة في المساء..

قالت صفية: أتمنى أن أكون "طبيبة".. حتما ستكونين طبيبة عجيبة فريدة.. فمن للطب سوى أمثالك ياصفية.. أنت من ستشفين جراح السودان العميقة. وستولدين من رحمه العظيم النور والحب والسلام والفضيلة .

حين سأل المذيع صفية عن والدها ابتسمت ابتسامة ملاك نادر وقالت: "أنا أعشق والدي الطيب.. فحين يرخي الليل سدوله في بيتنا الطيني البسيط  أخصص نصف ساعة لوالدي الحبيب قبل أن ينام فهو يغيب عنَّا من الصباح حتى المساء يجمع الثمار ويشتري الخبز والطعام".

تكمل صفية: "بالأمس جلست مع والدي في رحم الظلام دردشنا .. ثرثرنا.. تسامرنا وضحكنا "ضحك طفلين معاً".

حفظك الرحمن يا صفية وحفظ السودان الحبيب.