التكافل المجتمعي وفق "عمان 2040"

د.بدرية بنت ناصر الوهيبية *

انطلاقا من الاهتمام السامي بحماية حقوق الإنسان العماني كونه محور التنمية وغايتها، فقد وجه صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله وبرعاه- بإرساء مبدأ العدالة والمساواة بين أفراد المجتمع العماني من خلال استكمال منظومة الحماية الاجتماعية، وأكد خطابه السامي في العيد الوطني الخمسين هذا التوجه: "تأكيدًا على اهتمامنا بتوفير الحماية والرعاية اللازمة لأبنائنا المواطنين، فقد وجهنا بالإسراع في إرساء نظام الحماية الاجتماعية: لضمان قيام الدولة بواجباتها الأساسية، وتوفير الحياة الكريمة لهم، وتجنيبهم التأثيرات التي قد تنجم عن بعض التدابير والسياسات المالية، كما سنحرص على توجيه جزء من عوائد هذه السياسات المالية إلى نظام الحماية الاجتماعية، ليصبح بإذن الله تعالى مظلة وطنية شاملة لمختلف جهود وأعمال الحماية والرعاية الاجتماعية"، كما أكد ذلك في إقرار المبادئ الاجتماعية في المادة (15) من النظام الأساسي للدولة الصادر بالمرسوم السلطاني رقم(6/2021)؛ حيث تتمثل في إرساء العدل، والمساواة، وتكافؤ الفرص، والتعاضد، والتراحم، وتعزيز الوحدة الوطنية، وتضامن المجتمع في تحمل الأعباء الناجمة عن الكوارث والمحن العامة.

ووفقا لهذا النهج السامي، ومن واقع توجهات رؤية عمان 2040، وبعد الاطلاع على مبادرات خطة التوازن المالي، وخطة التنمية الخمسية العاشرة (2021-2025م) التي تم إعدادها بشكل تشاركي مع جميع القطاعات التنموية وبمشاركة المجتمع المدني، والذين بدورهم يسهمون في تحقيقها وتنفيذها على أرض الواقع، ومن خلال استقراء محاور وبرامج الأولويات الوطنية، ومنها أولوية الرفاه والحماية الاجتماعية التي تعد الأولوية الرابعة من الأولويات الوطنية، نجد أنَّ أغلب هذه المبادرات والبرامج قائمة على تعزيز دور التكافل المجتمعي؛ من خلال مساهمة مختلف القطاعات الحكومية، والمؤسسات الأهلية، والخيرية، والتأمينية والوقفية، وشركات القطاع الخاص من منطلق المسئولية الاجتماعية، ومساهمة أفراد المجتمع أنفسهم في دعم وتعزيز برامج الحماية المقدمة للفئات الأكثر احتياجًا؛ إذ إنَّ الجميع مسؤول وله دور في إنجاح هذه المنظومة، وذلك من خلال المحافظة على المصالح العامة، والتمسك بمبادئ المواطنة المسئولة، ودفع المفاسد والأضرار المادية والمعنوية؛ بحيث يشعر كل فرد فيه أنه إلى جانب الحقوق التي له، عليه واجبات تجاه الآخرين، خاصة الفئات الأكثر احتياجًا وفئات ذوي الدخل المحدود، وذلك بإيصال المنافع إليهم ودفع الأضرار عنهم.

وتُرجمت أولوية منظومة الرفاه والحماية الاجتماعية -في الخطة التنفيذية الأولى من رؤية عمان 2040- في مجموعة من الأهداف والمبادرات الوطنية، حيث تضمَّنت سبعة أهداف، وثلاثة وعشرين برنامجًا اجتماعيًّا، وركزت أغلبها على إعادة هيكلة منظومة الحماية الاجتماعية المؤسسية والتشريعية. فضلا عن تعزيز دور التكافل المجتمعي للمشاركة في وصول منافع الحماية الاجتماعية للفئات المحتاجة، والذي يرسم صورًا متعددة من خلال تعاون القطاعات العامة، وتوجيه المسؤولية الاجتماعية للشركات والقطاع الخاص، والأهلي والوقفي في دعم المنظومة، واستثمار رأس المال الاجتماعي بطريقة موجهة ومقننة.

وأهم ما تضمَّنته برامج منظومة الحماية الاجتماعية تحسين أوضاع الأسر الأكثر تضررًا وتأثرًا بتدابير ومبادرات الاستدامة المالية، التي شملتها خطة التوازن المالي كرفع الدعم عن بعض الخدمات وإعادة توجيهه للمستحقين، وفرض بعض الضرائب للتكيف مع الأوضاع المالية والاقتصادية الحالية؛ فوجهت المنظومة برامجها من أجل تقليص الآثار الاجتماعية والاقتصادية -المترتبة على تطبيق مبادرات الاستدامة المالية- على فئات الضمان الاجتماعي، وذوي الدخل المحدود، ووضع منظومة تمكين متكاملة لتأهيلهم للمشاركة في سوق العمل وتحقيق الرفاه الاجتماعي المناسب لهم.

ووفقاً لما سبق، أوضحت خطة التوازن إرساء منظومة حماية اجتماعية متكاملة تقوم على تنفيذها ومتابعتها وحدة أو جهة مختصة بمشاركة المجتمع المدني، والعمل على تطوير هذه المنظومة أفقيًّا وعموديًّا؛ بحيث يتم توسيع تغطية الحماية الاجتماعية لبعض الفئات كذوي الدخل المحدود والمرأة المعيلة...وغيرهم من الفئات المتأثرة، إضافة إلى تطوير خدمات الحماية الاجتماعية المختلفة، والعمل على تحديد تعريف وطني لفئات ذوي الدخل المحدود، وتقدير خط المعيشة اللائق، فضلا عن مراجعة تشريعات منظومة الحماية الاجتماعية وتحديثها، وتقييم برامج الدعم الحكومي من حيث آليات الاستهداف التي تتبعها، وتوجيه الدعم للفئات المستحقة.

وتسعَى منظومة الحماية الاجتماعية إلى التحول من مجرد تقديم رعاية مالية وخدمية للفئات المحتاجة إلى حماية اجتماعية قائمة على التمكين؛ بحيث تقوم على تمكين فئات الضمان الاجتماعي والفئات الأكثر احتياجًا وذوي الدخل المحدود اقتصاديا عن طريق تعزيز مهاراتهم، وتأهيلهم، وتدريبهم للدخول في سوق العمل، وتبني مشروعات صغيرة مدرة للدخل تعود عليهم بالنفع، وبالتالي تحويلهم من أسر مستفيدة إلى أسر منتجة لها دور فاعل في تعزيز الاقتصاد الوطني، ويتم ذلك بالتعاون مع القطاع الخاص والقطاع الأهلي لتعزيز منظومة التمكين ومشروعاتها.

ولا تتكامل هذه المنظومة الحمائية إلا بالتوازن والتوازي مع سياسات سوق العمل؛ من حيث مراجعة تحديد الحد الأدنى للأجور، ومراجعة أنظمة وتشريعات التغطية التأمينية، واستثمار صناديق التقاعد بما يحقق لها الكفاية المالية والاستدامة، وتوجيه المسئولية الاجتماعية بشكل ممنهج وموجه.

وحتى تتمُّ مُتابعة كفاءة منظومة الحماية الاجتماعية وتقييمها؛ وتعزيز مبدأ التكافل الوطني، فإنها تتطلب تكوين مؤشر الرفاه الاجتماعي الوطني من خلال بناء قاعدة بيانات وطنية تتضمن بيانات مختلف الفئات المستهدفة مربوطة مع أنظمة الضمان الاجتماعي، والمؤسسات الأهلية الخيرية، والهيئة العامة للأعمال الخيرية، وأنظمة الزكاة، والوقف، وبرامج المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات، وشركات القطاع الخاص، إضافة للأنظمة التأمينية.

أمَّا عن تمكين باقي فئات المجتمع التي تشملها منظومة الحماية الاجتماعية، كالمرأة ورعاية الطفل والأشخاص ذوي الإعاقة والشباب، فقد أعدت الحماية الاجتماعية برامج خاصة لكل فئة حسب ما أوضحته الخطة الخمسية العاشرة، وتسعى إلى توفير الحماية القانونية للمرأة في جميع المجالات، ويأتي ذلك ترجمة لفكر صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله ورعاه- الذي أكد على أهمية حماية حقوق المرأة العمانية، وتعزيز المساواة بين المرأة والرجل ورعاية الطفل، وتعزيز مشاركتها في التنمية الشاملة، فتضمنت خطة الحماية الاجتماعية وضع سياسات وبرامج داعمة لتحقيق التوازن للمرأة بين العمل ومتطلبات الحياة الأسرية؛ من حيث: تطبيق مبادئ العمل عن بُعد، وتوفير دور حضانة في مقار عملها، وإعطائها المرونة في ساعات العمل، وفي طلب التقاعد المبكر في مدد تتناسب مع قدرتها على العطاء، وبما يتلاءم مع طبيعتها ومراعاة أحوالها في تربية الأبناء، وتلبية احتياجات أسرتها، والعمل على توفير التغطية التأمينية لعمل المرأة المنزلي وغير المنظم، واحتساب مُساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي، إضافة لوضع تدابير إيجابية لها لزيادة وصولها إلى مواقع صنع القرار، والمجالس التشريعية، والعمل على دمج هذه الحقوق جميعها في تشريع أو إستراتيجية خاصة لحماية المرأة، وتمكينها على نطاق جميع المستويات الاجتماعية والاقتصادية.

وفيما يتعلَّق بمُتطلبات الشباب، فقد تضمَّنت المنظومة مراجعة الأنظمة والتشريعات المتعلقة بالعمل التطوعي، ودعم الأنشطة الشبابية والتطوعية والرياضية، وإنشاء مراكز إعلامية بما يتواكب مع تطور الإعلام الرقمي والاجتماعي وبإدارة شبابية عمانية، وبإشراف الجهات المختصة بالشباب والعمل التطوعي، فضلا عن تعزيز آليات التمويل والاستثمار لتطوير منظومة العمل التطوعي والأنشطة الرياضية والثقافية.

وتتقاطَع منظومة الحماية الاجتماعية مع برامج ومبادرات الأولويات الوطنية الأخرى؛ ومنها: تنمية المحافظات والمدن المستدامة، وبرامج أولوية الاستدامة المالية؛ حيث التقت وتضامنت مع الأخيرة بإعداد برامج حماية موجهة للفئات الأكثر احتياجًا، وفئة ذوي الدخل المحدود لتتلاءم مع متطلبات الاستدامة المالية ومبادراتها.

وبالنّسبة لتقاطعها وانسجامها مع أولوية تنمية المحافظات والمدن المستدامة، فإنّها تستهدف بشكل أكبر تمكين المجتمع الأهلي للمشاركة بفاعلية في التنمية الشاملة والمستدامة، من حيث تأهيل قيادات المجتمع الأهلي بمن فيهم قيادات جمعيات المرأة العمانية، وتأهيل القيادات الأخرى في العمل التطوعي بالتعاون مع القطاع الحكومي والخاص والأهلي، وتوجيههم للمساهمة في تمكين الأسر وتنمية المجتمع، فضلًا عن تعزيز قنوات التواصل المجتمعي مع مجلس الشورى والمجالس البلدية، والجمعيات الأهلية والفرق التطوعية، ولجان التنمية الاجتماعية بالولايات للمشاركة في كل ما يتعلق بتنمية المحافظات؛ وبالتالي يسهم ذلك في تعزيز الحماية الاجتماعية من خلال إرساء قيم التكافل والتعاون، وتحقيق أسس التمكين والتأهيل.

وخلاصة الأمر.. فإنَّ منظومة الحماية الاجتماعية لا تستطيع السير في خطى واثقة إلا بتكاتف الجميع، ومن خلال ترسيخ قيم التكافل والتضامن المجتمعي، وتكامل الأدوار المؤسسية والمجتمعية، وتطوير البيئة التشريعية المعزِّزة لأنظمتها، ووفق منهجية تشاركية واضحة، تحقق مخرجات رؤية عُمان 2040 بالشكل المطلوب، وبالتالي تحقيق الرفاه الاجتماعي المنشود للمواطن والمجتمع العماني.

 

* كاتبة وباحثة في المجالات الاجتماعية والثقافية

تعليق عبر الفيس بوك