صدقت جدتي!!

 

 

عبدالله الفارسي

 

ذات نهار سمعت أمي تشتكي أبي لجدتي؛ فقالت لها جدتي "الرجال يحملون ولكنهم لا يلدون".

لا أعلم ربما رحلت هذه الجملة البسيطة إلى الفضاء اللامتناهي مع روح جدتي الحكيمة، وربما اختفت تحت الرمال التي رقد تحتها كل الرجال الذين يحملون ولا يلدون.

لم أفهم كلمة جدتي وعبارتها البسيطة، لقد كان قلبي ما زال صغيرا آنئذ؛ كان يتهيأ ويكبر ويتسع استعدادا لاستقبال الأحمال المستقبلية الموعودة. دار قلبي مع دورة الزمن، ومع العمر زادت الأحمال وكبرت وتوحشت فتذكرت مقولة جدتي الحكيمة: "الرجال يحملون ولا يلدون".

يقول الطب الحديث إن 77 % من الرجال يموتون بالسكتة القلبية، مقابل 29 % من النساء؛ فمعظم الرجال يموتون وهم واقفون، أو نائمون، والتفسير الطبي هو "سكتة قلبية".

السكتة القلبية معناها خذلان القلب لصاحبه، خيانة القلب لرفيقه؛ فليس الأصدقاء الذين يخونون فقط القلوب أيضاً أعظم خيانة من الأصدقاء. السكتة القلبية إعلان القلب ضعفه وانهياره وسكونه التام. يصمت القلب ويرفض أن يتحرك حين يصبح عاجزًا عن تحمل ما لا طاقة له به؛ فالرجل غالباً يحمل همومه في قلبه، يتجول بها بين الناس، يسير بها في الأزقة والحارات، يحملها معه حين يركب حماره وبغلته وسيارته. وأحياناً يضحك ويقهقه وأحماله تتخضخض في قلبه وتضرب قرونها أغشيته، وهناك من الرجال من يلعب ويركض وتلعب أحماله في صدره وتتاقفز أوجاعه في قلبه.

أحد معارفي كان قلبه مخزناً لأحمال هائلة، كان قلبه غرفة مليئة بالعذاب والتعاسة، وكان يلعب الكرة، عاشقاً للكرة، ظناً منه بأن اللعب سيخفف عنه بعضاً من تلك الأحمال الجاثمة على قلبه، كان يعتقد بأن الأوجاع ستتحول إلى عرق يتساقط قطرات على التراب أو ستقذفه الريح إلى مكان سحيق.

وذات عصر، لعب كثيرا حتى سقط، فحملوه إلى المستشفى ليتسلموا شهادة وفاته وليؤكد لهم الطبيب بأن الحمولة القلبية كانت أكثر من اللازم وأن صاحبكم سكت قلبه إلى الأبد، وأن الأحمال لا تتحول إلى هباء ولا تندثر في الهواء.

الرجال لا يعصرون همومهم ليسكبونها دموعاً ولا يطحنونها ليحولوها إلى عويل وصراخ كالنساء، الرجال يحملون أحمالهم في صدورهم كاملة، كتلة صلبة ثقيلة قاسية.

يقولون "قلوب الرجال صناديق مقفلة"؛ فالرجال يخزنون همومهم.. يحفظونها.. يخبؤونها.. يدسونها حتى تتكدس، وتتعفن، حتى تخنق قلب صاحبها فتسكته.

أذكر ذات نهار منذ سنوات طويلة رافقت أحد جيراني إلى أحد المنجمين، وما أكثر المنجمين في وطني وما أعلى راياتهم، وكان جاري يحترم المُنجمين كثيرا ويصدق قراطيسهم ويُقدس نصائحهم ويُعلق تمائمهم.

رافقته إلى ولاية بعيدة، وحين وصلنا بيت المُنجِّم جلسنا ننتظر دورنا للدخول عليه.

دخلت مع جاري، تشجيعاً ومؤازة له، بث جاري همومه ومصائبه للمنجم. فتح المنجم كتاباً كبيراً أمامنا وقرأ لجاري ما يقوله كتابه وما تسطع به نجومه، وقفل دفتره العظيم، وقبل أن نخرج نظر المنجم إليَّ وقال لي: أنت ستموت "بسكتة قلبية"!!

نظرت إليه مبتسماً وقلت له: الحمد لله، إنه أهون بكثير من الموت "بحادثة مروعة".

حمل جاري تميمته وحملت أنا نبوءة المنجم، وخرجنا من عنده.

فرحت كثيراً، شعرت بسعادة عظيمة، فالموت المباغت هو كل غاياتي، السكتة من أجمل الموتات في نظري، إنها أرحم من الموت بالسيف أو الطعن بالسكين، أو الهرس تحت عجلة شاحنة ضخمة يملكها مليونير، وطبعًا أفضل بكثير من الموت غرقاً أو خنقاً أو طحنا.

لذلك أنا سعيد جدًا بنهايتي التنجيمية المنتظرة، لأنني غالباً أصدق المنجمين ولو كذبوا.

انتظر منذ سنوات هذه السكتة، لم تأتِ، تجاوزت الأربعين ولم تأتِ، تجاوزت الخمسين ولم تأتِ. لقد تأخرت كثيرا..

يقول الحكماء: "الحياة بعد الخمسين ترف ورفاهية"، وأنا حالياً في مرحلة الترف، وأرفل في أحضان الرفاهية!!

ربما الخزان القلبي ما زال لم يمتلئ بعد لإحداث السكتة وإيقاف كل هذا الترف المتدفق على الروح، المنسكب على الفؤاد!!

فالسكتة لا تحدث إلا إذا امتلأ القلب بالأحمال وضاق ذرعا بالأثقال.

الشيء الغريب أن كل هذه المهازل اليومية التي يمتصها ويحتفظ بها قلبي منذ بلغت الحلم حتى اللحظة لا تكفي لإحداث سكتة قلبية، فمازال قلبي يقاوم، أي قلب أملك؟! أي قلب هذا الذي يدق ويعزف في صدري؟! أي قلب أورثتني يا أبي الحبيب؟! لقد أورثتني قلباً حديدياً لا يتوقف ولا يمتلئ بسرعة ليسكت ويهمد وينام.

لذلك قررت أن أكتب وصيتي بالتبرع بقلبي للمستشفى، لمنحه لأي مريض يحتاج إلى قلب، إلى أي مريض خانه قلبه وغدر به، وما أكثر ما خانتهم وتخونهم قلوبهم.

إنَّ قلبي قلب مثالي جدًا للتبرع، إنه قلب عنيد عصي على "السكوت"!

المعلومات الطبية تقول إن السكتات القلبية غالباً تكون في أوقات المساء، السكتات القلبية تفضل الهدوء والسكون، والظلام، لذلك 69% من المتوفين بالسكتة القلبية سكتت قلوبهم ليلاً وهم نائمون.

وهذه نعمة أخرى، ليس هناك أجمل وألذ من الموت في السرير.. الموت في الهدوء.. الموت في الظلام.

لذلك منذ حديث المنجم معي وأنا أهملت قلبي تماماً؛ لا أكشف عليه، ولا أهتم به، ولا اتفحصه.. لا أريد أن أعرف إلى أين وصلت الأحمال في داخله وكم بقي من سعته وكم المستهلك من طاقته.

أريد أن تكون "السكتة" مفاجئة.. مباغتة.. سريعة وسعيدة.

كل أحبتي الراحلين الذين ماتوا بالسكتة القلبية لم يكونوا يعانون من أي مرض أبدًا، كانوا أقوياء البنية، أصحاء، عضلاء، وحين يصلني خبر وفاة أحدهم، أتيقن تماماً بأن قلبه أمتلأ وتدفق وحمل ما لا يطاق حمله.

الذي يموت بالسكتة هو ذلك الذي وضع في داخل قلب الكثير والكبير حتى فاض وسكت وهمد.

كل ما أفعله الآن هو أن أدس في قلبي كل شيء، أعبئ أركانه وغرفاته وتجويفاته بالقمامات والتفاهات التي اصطدم بها يومياً.

حتى أمسى قلبي كأنه حاوية قمامة قديمة عفنة وعظيمة، لقد أصبح كحاوية مهجورة في مدينة محروقة.

صدقتي يا جدتي.. الرجال يحملون ولكنهم لا يلدون!!