د. عبدالله باحجاج
قبل يومين من توديعنا عام 2020، أتيحت لنا فرصة زيارة نيابة الحشمان التابعة لولاية ثمريت قرب الحدود مع السعودية، ومكثنا فيها ليليتيْن قمريتيْن فوق كثبان رملية، تنافس الذهب في بريقه ولمعانه وسحره، بل سيذوب الذهب في ذهبها الذي يكسو تلالها المرتفعة، وبدأت وكأنها جبال من ذهب، وتشعرك وكأنك في كوكب آخر غير كوكب الأرض، ولن تُصدق في الوقت نفسه أنك في قلب صحراء الربع الخالي، وقد رأينا فيها الحياة جاذبة للإنسانية بهدوئها وبساطة العيش فيها. وفي المقابل، بدأت المدينة طاردة برسومها وضرائبها المتعددة، وقلقها المتصاعد على الحاضر والمستقبل.
وقد رأينا فكرة الهجرة إلى الصحراء فعلا جاذبة للمواطنة الباحثة عن ذاتها داخل جغرافيتها الوطنية، ففيها لم نفقد الشعور بالمواطنة مثلما أصبحت المدينة تعاملنا بمفهوم الإقامة الدائمة إذا ما ارتفع دخل الأسرة قليلا عن سقف الدخول التي تستحق تعريفة المواطن لفاتورتيْ الكهرباء والمياه، ولن تفضل أبناء الوافدين على أبنائنا بتعليم راقٍ.. إنَّنا نشهد انقلابَ المفاهيم المتعارف عليها، والبديهيات التي تؤسِّس الذهنيات؛ فمن خلال القرارات المالية وتبعاتها وتداعياتها، سننتقل من دولة المواطنة إلى دولة الإقامة الدائمة، وهذا النوع من الدول ستفتح امتيازاتها لكل مقتدر يملك المال، ومن يملكه ستكون معيشته أفضل من المواطن، وفي مركزية قيادة المواطن وتوجيهه، فهذا منطق دولة الإقامة الدائمة.
ومن المؤكد أننا سنشهد كذلك موجة خارجية مستهدفة، هدفها الاختراق الداخلي، ستنفذ إلينا عبر بوابات قديمة وجديدة، وستستغل القوانين بما فيها قانون امتلاك العقارات، وقد انفتحتْ الحكومة مؤخرا على هذا المسار، عبر السماح بامتلاك الأجنبي لعقارات في مواقع جديدة من مسقط، سيكون فيها الحق لمن يملك المال، وكلنا نعلم من يملك المال قديما وحاضرا، ومن سيملكه مستقبلا في ضوء دخول المنطقة لاعبون جدد، وينبغي أن تخشى الدول التاريخية ذات المواقع الجيواستراتيجي من هؤلاء اللاعبين وأجندتهم، نفس خشيتها في مرحلة السبعينيات عندما كان القلق من تمدد أفكار وأيديولوجيات لدول مستهدفة بذاتها لأهداف توسعية، وهى مرحلة لا تزال في ذاكرتنا الاجتماعية.. فهل هي غائبة في الذاكرة السياسية؟
ومن خلال الليلتين في قلب صحراء الربع الخالي، تعزَّزت رؤيتنا للبعد الاجتماعي في الدولة العمانية المعاصرة بعد أن تمكَّنا من تحرير منظومتنا السيكولوجية من كل الهواجس والضغوطات، وتركناها خلفنا في المدينة، وكانت الفرصة سانحة لكي نرى العام الجديد 2021 في تموقع حدودي يغازل ثلاث جغرافيات سياسية إقليمية؛ هي: السعودية واليمن والإمارات، وقد نُضيف إيران إذا ما انتقلت رؤيتنا من موقع مسندم، وكانت الديموغرافيات في الجغرافيات الإقليمية تنتقل فيما بينها بحرية كاملة، وباستقطابات سياسية مغرية، وكانت تستخدم فيها كافة أشكال الاستهدافات.
ومن هذا الموقع الجغرافي، قرأنا تجربتنا في إفشال الاستقطابات، ورأينا بأم أعيننا حصانة حددونا وأمنها وأمانها بقوة مجتمعنا كشرط وجوبي وأوَّلي قبل قوتنا الخشنة، ورأينا أنَّ نجاح منظومة حدودنا الاجتماعية والأمنية يقترن باستمرار القوتين معا "قوة المجتمع وقوتنا الخشنة" والقوة الأولى هي الأهم في عصرنا الحالي، كما كانت في عصرنا الماضي؛ ففي عالمنا الجديد لن تتمكن الدول من استخدام القوة الخشنة في ظل ظروف وتوازنات معينة لحماية حدودها، لكنها من المؤكد ستحقق النتيجة ذاتها، وأكبر منها من خلال قوتها المجتمعية.
وهنا.. التساؤل المهم: كيف تمكَّنت بلادنا من تحقيق هذه الحصانة الأمنية والسياسية والعسكرية على كامل ترابنا الوطني، رغم التحديات الجيوسياسية القديمة والجديدة؟ الإجابة رصدناها من عين المكان الحدودي، ووجدنا أنَّ ذلك قد تحقق من خلال دور الدولة الاجتماعي؛ فهذا الدور كسب الديموغرافيا للجغرافيا الوطنية، وتم توطينها بمجموعة حقوق أساسية وخدمات حكومية مجانية، منحت للفرد والجماعة حقوقًا يدافعون عنها في المكان، ويحرصون على الحفاظ عليها.
فقد كانت فلسفة المؤسس الراحل -طيَّب الله ثراه- بعيدة المدى، ومستشرفة لمختلف تحديات الجغرافيا والديموغرافيا، ضمن الإطار الجيواستراتيجي متعدد الأبعاد والاتجاهات -كما أشرنا إليها سابقا- فتم بناء مساكن اجتماعية، وتوصيل التيار الكهربائي وخدمة المياه والبنية الأساسية الحديثة.. لتجمعات سكانية قليلة العدد في مناطق معزولة في الصحراء والجبال، وهذه نماذج مثالية للكسب والاحتواء والتوطين...إلخ؛ فهل ستحافظ عليها منظومة الضرائب ورفع الدعم عن الخدمات المجانية؟
وهذا كله يدلِّل على أهمية استمرار البعد الاجتماعي للدولة العمانية المعاصرة، ليس شرطا أنْ يكون على الماهيات القديمة نفسها؛ لأنَّ الظروف المالية والاقتصادية تغيرت، لكنَّ هناك خطوطًا حُمر حاكمة للتحولات والتغييرات في بلادنا، يتم الآن المساس بها دون قيود سياسية في إطار إصلاح الدولة والمجتمع، مثل الرواتب والأجور والخدمات الحكومية المجانية، مما بدأت معه الآلام الاجتماعية تتصاعد وتتسع، وهذا ما جعلنا نرى المستقبل القريب للتداعيات من المنطقة الحدودية لتقاطع الجغرافيات السياسية الإقليمية.
لن نتعمَّق في إشكالية من هو الأقدم الدولة أو المجتمع، لكننا لو تأملنا تاريخنا، فسنجد أسبقية المجتمع وثباته في ظل المتوالي من نشأة الدول المتعاقبة والمتصارعة، ما عدا مرحلة المؤسس -رحمه الله- الذي تمكن بوعيه الرفيع، وفهمه للتاريخ العماني، أن يركز أولا على بناء القوة المجتمعية "الموالية والمنتمية"؛ من خلال الدور الاجتماعي للدولة، فحتى لما تفجرت أحداث عام 2011، ظلت المنظومة الولائية والانتمائية في منأى عن المساس بها من قبل المعتصمين، وكان آباؤهم وأجدادهم يشكلون حصانة عدم المساس؛ فالراحل المؤسس قد حفر الولاء والانتماء له، بعواطف ومشاعر اجتماعية عميقة.
وهنا.. ينبغي المحافظة على المكتسبات الاجتماعية مهما تعاظمت التحديات المالية، ويقينا سنتجاوزها بأقل الضرر إذا ما أعملنا الفكر في البدائل المتوازنة بعيدا عن الحلول المالية الأحادية والمؤلمة، وهى حلول ستفكك قوة المجتمع، وستخل بتوازناتها، ونقولها صراحة إنها ستُضعف المجتمع لصالح بناء القوة المالية للدولة، ومعها لن تفيد الترقيعات بعد ما تكون القرارات المالية قد فككت البنية المجتمعية، وبعثرت بولاءاتها وانتماءاتها، يسارا ويمنيا، وفي هذين الاتجاهين، يتربَّص بنا طامعون من أطراف جغرافيتنا الوطنية، وآخرون عابرون لحدودنا.
فهل نهيئ لهم الظروف لنجاح مخططاتهم، أم نعمل بذكاء وتوافق وطني على إعادة التفكير في سبيل مواجهة تحدياتنا المالية؟ لا يُمكن أن نضع الكفتين "الاجتماعية والمالية" في اختيار أحدهما على الآخر؛ فلا مجال هنا لهذه المفاضلة، وإنما المجال السياسي المفترض هو العمل بذكاء وتوازن على أن لا تؤثر الحلول المالية على قوة المجتمع وتوازناته، ولن يكون من الحكمة القبول بكل ما يطرحه رجال المال دون مناقشات سياسية؛ فهم عليهم إيجاد الحلول بعد ما تُفرزه السياسة من أولويات شاملة، وليس هم قادة المرحلة "تخطيطا وتنفيذا"، لو استمروا على ذلك، فسيتم بعثرة المكتسبات السياسة وارجاعها لنقطة الصفر.