د. سيف بن ناصر المعمري
لم نكن نعرف لكلمة "بدل" تأثيراً كبيراً إلا في السياق اللغوي، ورغم تعدد أنواع "البدل" في اللغة العربية، وتعدد استخداماتها ما دفع بنا لأن نضيق ذرعاً بها ونحن على مقاعد الدراسة، إلا أن تأثيرها كان ذا طابع جمالي، فالبدل هو عبارة عن علاقة بين تابع ومتبوع، يحظى الاثنان بنفس السمة.
فحين نقول انتصر القائد أحمد بن سعيد على الفرس يكون أحمد بدلاً من القائد، ولأن القائد مرفوع لأنه فاعل فإن أحمد يكون أيضا مرفوعا لأنه بدل للفاعل، وهذا يطلق عليه بدل مطابق حيث يكون البدل هو نفس المبدل منه، وهناك بدل بعض من كل، وبدل اشتمال، وبدل المباين وينقسم إلى ثلاثة أقسام هي بدل الإضراب وبدل الغلط، وبدل النسيان، في البدل اللغوي وارد الغلط، ومتوقع النسيان، ويقع بدل الغلط حين يقصد المتكلم أمراً من الأمور فيسبق لسانه إلى أمر آخر ثم يتبين غلطه فيعدل عنه للصواب، ويحدث الأمر كذلك في بدل النسيان، مما يحتم المراجعة والتصويب.
نستعيد كلمة "بدل" خلال هذه الفترة الاقتصادية الصعبة ليس في سياقها اللغوي، إنما في سياقها المالي، فاللغة العربية لم تعد تحظَ بهذا الاهتمام الكبير حتى نتحاور ونتناقش حول كلمة واحدة منها ونجعلها تحتل واجهة حسابات شبكات التواصل الاجتماعي، وتكون مفتاح الأحاديث اليومية، فاللغة الإنجليزية تمدد على كل الألسن وفي كل القطاعات، وتريحنا من إشكاليات البدل، وتجنبنا محاذير الغلط والنسيان فيه. ولكن نستعيد هذه الكلمة من خلال تأثيرها الاقتصادي؛ حيث يظهر لنا أن البدل هو القشة التي قصمت ظهورنا وموازنتنا المالية، وبواسطتها استقطع من المال العام ما لم يتوقعه أحد خلال السنوات السابقة أنها كانت كلمة السر وراء التهافت إلى تأسيس الشركات، وتوالد مجالس الإدارات فيها، وتناسل للجان، وغيرها والتي كانت تسقى من نهر البدل الذي جعله البعض لا ينضب حتى وإن نضب ما يستحقه الآخرون جزاء عملهم.
كان البدل أشبه برأس "الهيدرا" الحيوان الذي صورته الأساطير الأغريقية أن له العديد من الرؤوس اختلف حولها ولكن بعض الروايات قالت إنها 100 رأس وإن قُطعت له رأساً ينمو له رأس آخر!! وفي بعض الروايات ينمو له رأسان أو بدلان، أو أكثر كبدل تعليم الأبناء، وبدل التأمين الصحي، وبدل التأمين على الحياة، وبدل ملابس، والمكافأة النوفمبرية، والراتب 13، ومكافأة الخدمة الطويلة، ومكافأة الرمضانية، ومكافأة العيدية، وبدل المصار، وبدل الإدارة، وبدل طبيعة عمل هيكلية، وبدل طبيعة عمل، وبدل ندرة، وبدل مستخدم، وبدل مجلس، وبدل رقابة. وكان أكثر البدلات إثارة هو بدل الجلوس، على مقاعد الشركات ومجالس الشركات وللجان العليا، والتي كانت بالآلاف للبعض، ولسان كثيرين يقول ليته كان بدل وقوف وليس بدل جلوس ربما تغيرت القرارات والأمزجة ولم تكن كل هذه الخسائر التي حمل الجميع مسؤولية وزرها، فكانوا جزءًا من بدل المطابقة التي يتبع فيه البدل المبدل منه في تحمل الوزر فقط لا في الحصول الامتياز والخصائص نفسها.
ما جناه البدل علينا طوال العقود الماضية يستحق أن يحاكم عليه، فالكتاب الإحصائي الصادر عن المركز الوطني للإحصاء والمعلومات أظهر تساوي الرواتب والبدلات في عام 2019؛ حيث استقطعت الرواتب مليارا وثلاثمئة وثمانية وخمسين مليون ريال عماني، أما البدلات فاستقطعت مليارا ومائتين وستة وأربعين مليون ريال عماني. وفي تفاصيل البدلات يكمن بدل الغلط وبدل النسيان طوال هذه المدة التي كانت فيها كرة الأوضاع الاقتصادية تتدحرج فتكبر العجوزات والديون، ولكن كرة البدل لا تزال بضخامتها لا يريد أحد أن يقرب منها، لأنها هيدرا ومن يتجرأ على قطع رأس من رؤوس هيدرا عليه أن يتحمل ظهور الرؤوس الأخرى له. هيدرا الذي ابتلع برؤوسه المتعددة المال العام، وولد أكثر من هيدرا جمع تحت لوائه كثيرا من الوزارات والمجالس واللجان، وبدلا من أي يكون البدل مضروباً في واحد، أصبح مضروبا في خمسة وستة وعشرة، تعددت البدلات وكثرت الأخطاء، وهذه ليست قاعدة اقتصادية فقط، بل أيضاً قاعدة لغوية، ولن نجادل في ذلك ومعظم علماء اللغة خرجوا من ظهرانينا، ولكن التصحيح في كلا الحالتين ضرورة ليستقيم الحال والمعنى.
إننا لا نستطيع أن نلغي كلمة من القاموس المالي أو اللغوي، ولكن كلمة "بدل" قد ضربتنا من حيث لا نحتسب، وأضرت باقتصادنا الوطني، ووضعتنا كأفراد ودولة في مفترق طرق، لا أحد يعرف إلى أين سوف نصل؟، وما الثمن الذي سندفعه؟، جل ما نستطيعه أن نقص بعض رؤوس هذا الهيدرا الأسطوري الذي يلتهم أحلام وأمنيات أجيال تحلم بحياة أفضل، ونستطيع أن نفرض بدلات توزان مثل بدل خطأ يهدف إلى محاسبة التقصير والتقاعس والإخفاقات والخسائر، ويكون الجزاء من جنس العمل، فلا يعقل أن يحمل أحدهم بدل جلوس على مقعد إدارة شركة بالآلاف فيما تخسر الشركة سنة تلو الأخرى، هنا يصبح البدل تشجيعاً للجلوس بدون إنجاز، وتشجيعاً للجلوس بدون تغيير، وتشجيعا للجلوس بدون تفكير، وتشجيعاً للجلوس من أجل لا شيء إلا الحصول على بدل الجلوس.