"سكت الطاحون".. وداعًا الرحباني

مدرين المكتومية

الفن.. تلك الحالة الشعورية الفريدة، التي لا يُمكن فهمها، أو التكهُّن بها، شعور غريب يأخذك من مكانك ويحلق بك إلى الفضاء الشاسع، كأنك ريشة تحملها الرياح الموسمية إلى حيث تذهب.. فالموسيقى نغم الحياة وإيقاعها المستمر.. إيقاع لا يتوقف بل يتسارع، وربما يذهب بنا إلى حيث لا ندري؛ فهي تمارس فن الإغواء الدائم، تذهب بك عكس التيار، ففي لحظات السعادة المطلقة يمكنها أن تعيدك للحظة ألم، وفي قمة الحزن يمكنها أن تسافر بك نحو العلا، كلُّ شيء معها عكس التوقعات؛ ففي الكثير من لحظاتها تجعلك تشعر بنشوة عارمة، وفي لحظات أخرى يمكنها أن تقلب حياتك رأسا على عقب وتفكر حينها بالانتحار.

وعندما قررت أن أكتب عن الفن؛ فبالتأكيد لم يكن مجرد مقال عابر، أو كلمات أردت فقط أن أضعها هنا لأجد قارئا واحدا يقرأها بكل حب وعمق وشغف، بل لأننا بالأمس تلقينا خبر وفاة الموسيقار اللبناني إلياس الرحباني، وهنا لا يُمكنني أن أتحدث عن سيرته الذاتية ومدرسته والمدارس الفنية التي قدمها، وتعلم منها، وخرج فيها الكثير من التلاميذ الذين وجدوا فيه الحاضن الأساسي لدعم مسيرتهم الفنية، بل أود فقط الحديث عن أجمل ما قدَّمه لنا الرحباني؛ فلقد لحن ما يزيد على 2500 من الأغنيات والمقطوعات الموسيقيه المتنوعة، وألَّف 25 موسيقى تصويرية لأفلام ومسلسلات مصرية.

وعندما نتحدَّث عن الرحباني، فأننا نتذكر أغنية "الطاحونة" لفيروز التي لحنها لها "وراحت الأيام وشوي شوي.. سكت الطاحون عَ كتف المي.. وجدّي صار طاحون ذكريات.. يطحن شمس وفيّ.. آه يا سهر الليالي.. آه يا حلو على بالي".

عندما كان الرحباني يلحِّن هذا الكم من الأغاني ويقدمها لكبار الفنانين، كيف كان يفكر وما هي الحالة التي تنتابه عندما كان يفعلها دائما...؟ أتُرى كان يجد نفسه خارج حدود المكان والزمان، كان هو والآلة الموسيقية وكلمات الأغنية تتراقص أمامه، أم أنَّ من مسؤوليته تجاه الفن والفانين كان يعمل ليل نهار بكل جهد وتفانٍ لتقديم ألحان تليق بكل كلمة ستحملها الأغنية، ما أجمل ذلك الشعور الفاصل بين ما نريد ونتمنى، وبين ما نشعر به، أعتقد أنَّ الموسيقى شيء من هذا القبيل الممزوج بالرغبة والاجتهاد والكثير من الأمنيات والأحلام، فهي بالتأكيد جزء من مشاعر الشخص، ولأنَّ قامة فنية كالرحباني بالتأكيد لم يكن ليلحن أغنية دون أن يشعر بها ويتأثر بها وتؤثر فيه. فنحن نعطي للأشياء جمالياتها من خلال شعورنا التام بها، وذلك جزء منا ونحن جزء منه.

أيُّ كاتب ومسرحي ورسام- وفي مجمل الحديث أي فنان على وجه الإطلاق- لن يستطيع أن يقدم لنا مادة فنية ما لم يشعر بها، والأمر بالتأكيد ينطبق على التلحين؛ فكيف يُمكننا أن نسمع أغنية لفنان ونقول بشكل مباشر هذه الأغنية من تلحين الفنان الفلاني...؟ بالتأكيد لأنَّ الفنان الذي يشعر بما يقدمه، فإنَّ طريقته وأسلوبه وطبيعة أعماله ستكون دائما حاضرة في ذهن المستمع ويستطيعون تمييزها عن غيرها.

إنَّنا نودع قامة فنية عظيمة، نودع صاحب "حنا السكران"، وهذا الوداع لا تكفيه الحروف والكلمات، ولكننا أمام رحيل الفن وفي رحيل الفن لا يمكننا إلا أن نقول وداعا لمدرسة الرحباني، وبالتأكيد فهو وداع ليس أبديًّا كغيره، لأننا دائما على موعد مع ما قدمه طوال فترة حياته، وبالتأكيد هناك رحيل لا يحتاج لوداع طويل لأننا سنلتقي بأرواح هؤلاء الأشخاص بين كل هذه المقطوعات والمعزوفات الموسيقية التي خلَّفوها لنا.