3 مواقف طريفة

عبدالله الفارسي

قال لي بعضهم: كتاباتك حزينة، وسطورك تحمل اليأس مُغلَّفة بالسخط ومصبوغة بالسواد، لماذا لا تكتب في الطرفة وتسطِّر في الدعابة؟ حسنا، إذن لنبدأ عامنا الجديد بالطرافة نزولا عند رغبة البعض.

تذكَّرتُ هذه المواقف الثلاثة الطريفة، علَّها تشفع لي وتمنحني لَقَب الكاتب الطريف، وتمسح عني وصمة كاتب اليأس والحزن العفيف.

الموقف الأول: أخبرني زميل هذه القصة الطريفة جدا.. يقول: كنا في إحدى مدارس المنطقة الوسطى، وكنا نسكُن في سكن المعلمين الوافدين، كان المعلمون الوافدون في هذه السنوات من أروع المعلمين إخلاصا وعملا وخلقا وطرافة. ويضيف: ذات صباح، كُنت جالسا أحتسي شايا في الجانب الظليل من جوانب السكن، فرأيت معلما من جنسية عربية خارجا من غرفته، وكان في حالة من الغضب والفوران ويحمل بيده مفكا كبيرا، كان منظُره مُرِيبا، وكان وجهه متعرقا وأنفاسه تنفث دخانا بسبب شدة البرودة، كأنه ثور مصارعة إسباني، وكانت حركته وقبضة يده توحِي بأنه عازم على فعل خطير أو ناوٍ القيام بأمر جلل، فقفزت من مكاني فزعا وهرولت إليه لأمسكه، وأهدئ من روعة. فأوقفته، وحاولت تهدئته، ومعرفة سبب غضبه وغليانه ومعرفة السر من حمله لهذا المفك المخيف، فانطفأ الرجل وتنفس الصعداء وهدأ روعه وانخفض أدرينالينه، وجلس بجانبي، فقلت له أخبرني ماذا حدث، ما سبب كل هذا الاشتعال والانفعال؟ فأخبرني الحكاية.. قال: قبل يومين اشترينا أنبوبة (سيلندر) غاز بريالين، تناصفنا المبلغ أنا وشريك غرفتي (من دولة عربية جارة له)، وبالأمس صدر قرار نقلي إلى منطقة أخرى. وحين طلبت من زميلي أن يعيد لي "ريالي" الذي دفعته لأجل أنبوبة الغاز؛ لأنني سأغادر السكن هذا اليوم، ولن أستخدم الغاز. قال لي زميلي: ليس لك حق معي، خذ حقك من الغاز!! وحين رأيتني قبل قليل كنت مُتوجِّها لأنبوبة الغاز. فقلت له: ولماذا؟ قال: لأفكها، وأطلق منها نصيبي من الغاز في الهواء!!

الموقف الثاني: وهذه القصة عايشتها بنفسي.. كنا ذات نهار في المدرسة، وقد أخبرنا أحد المعلمين قبلها بيومين بأنه سيحضر لنا وجبة مأكولات بحرية؛ فجاء موعد الوجبة، وتجمع كل المعلمين حول وجبتهم البحرية، وفتحت الشهيات وسال اللعاب على مِصراعيه، كان بيننا معلم وافد، جلس بجانبي وبدت عليه آثار الإعياء؛ فقلت له: ما بك؟ قال: منذ يومين، لم آكل شيئا منتظرا هذه الوجبة الشهية العظيمة!!

وحين وضعوا الطعام، افترس صاحبنا الصحن افتراسا، كان يأكل بيديه الاثنتين فقضى على كل الطعام ولم يترك لنا شيئا في صحننا. ملأ بطنه حتى التخمة ونهض، بعد ساعة أو أقل سمعت أحد المعلمين يناديني لنحمل نفس المعلم إلى المستشفى بسبب ألم شديد في بطنه، حملنا زملينا إلى المركز الصحي القريب من المدرسة، فحص الطبيب بطن المعلم المنتفخ كانتفاخ بطن امرأة حُبلى في شهرها التاسع، فقال له الطبيب: يجب إخراج كل الذي في بطنك وحالا، وليس هناك حل آخر. فقفز المعلم من سرير صارخا: والله لن أخرج شيئا من بطني، بل سأخرج من هنا، وخرج بسرعة من المركز الصحي، وكأن شيئا لم يكن، وأنا وزميلي والطبيب والممرضة وبواب المركز الصحي في موجة من الاندهاش وعاصفة من الضحك.

الموقف الثالث: في بدايات تعييني عملتُ في مدرسة بقرية نائية، وكُلفت بتدريس الصف الأول الابتدائي، وحقيقة كُنت أجهل أشياء كثيرة عن مواقف الأطفال؛ خاصة أولئك الذين يُجبرون على الذهاب للمدرسة للمرة الأولى في حياتهم. وفي أحد الصباحات الجميلة كنت في الصف أشرح درسا، وكنت منهمكا في الشرح، فشممت رائحة غريبة فالتفت إلى الأولاد، فرأيت أغلبهم غالقا أنفه بكلتا يديه، في البداية لم أعرف مصدر الرائحة وكنت أظنها زائرة من خارج الصف، بعد ذلك رأيت طفلا في آخر الصف منكمشا على نفسه وجميع العيون مسلطة عليه وبعض الأولاد يضحكون. فهمت الموضوع، وأخرجت الطلاب بسرعة إلى خارج الصف وطلبت منهم الذهاب إلى الملعب، خرج كلهم يتراكضون فرحين باللعب، وبقي الطفل الوحيد ملتصقا في كرسيه، اقتربت منه وعرفت بأن قضى حاجته في ملابسه.

فحاولت أنْ أداعبه وأوضح له بأنَّ الأمر عادي، وأننا كلنا نفعلها أحيانا، وطلبت منه أن يقف لكنه بكى ورفض وزاد التصاقا في كرسيه، فلم يكن أمامي سوى خيارا واحدا وهو أن أحمله هو وكرسيه.. فحملت الكرسي والولد ملتصقا به إلى أقرب حمام، وخلعت له ملابسه، وغسلته وحممته، ثم غسلت ملابسه الداخلية، وغسلت البقعة الخلفية من دشداشته وعصرتها بكل ما أُتِويت من قوة حتى جفت وأصبحت ممكنة الارتداء، فتنشط الولد وانبسط وخرج من دورة المياه مُتخلصا من خجله، وانطلق إلى الساحة ليمارس اللعب مع أقرانه ناسيا كل ما فعله قبل لحظات، وتركني أنفض ثيابي المبللة وأصلح من هندامي وأوضاعي المبعثرة.