د. سيف بن ناصر المعمري
المحفظة.. رغم أنَّها مكان لحفظ النقود، إلا أنها ظلت مُؤشرا على حالة عدم المساواة الإنسانية؛ فقد عُرفت بأنها كيس صغير من الجلد أو القماش تُحفظ فيه غالبا قطع النقود، أو الأوراق الشخصية؛ فهناك أكياس صغيرة هزيلة مُتواضعة تطوق إلى النقود مهما كانت قيمتها متواضعة، وهناك أكياس تكاد تختنق من تزاحُم النقود فيها، وتكاد لا تستطيع أن تتنفس مما يأتيه كل يوم.
هذه الأكياس تطوَّرت تبعا لتطور النقود، فلم تعُد ذلك الكيس الجلدي؛ إنما أصبحت محفظة جلدية تختلف في أسعارها، حتى باتت بعض المحافظ مثل محفظة "ألف ليلة وليلة" النسائية التي طرحتها كريستيز -دار مزادات الفنون الرائدة في العالم- أغلى محفظة نسائية بيعت بسعر 3.8 مليون دولار أمريكي؛ حيث احتوت على 4356 قطعة ألماس شفّاف، و105 قطع من الألماس الأصفر، و56 قطعة من الألماس الورديّ. أمّا إجمالي وزن الألماس في الحقيبة فيبلغ 381.92 قيراط. ودخلت هذه المحفظة موسوعة "جينيس" على أنَّها أغلى محفظة في العالم، وهذه محفظة لا تنبع قيمتها مما تحمله من نقود، إنما مما لا تحمل من نقود؛ فهي للزينة وإظهار الثراء، بما لا تحمله من نقود.
ظهرتْ المحافظ الحديثة في أواخر القرن السابع عشر عندما ظهرت العملة الورقية في ولاية ماساتشوستس عام 1690م، وحلت بذلك من الأكياس القديمة المصنوعة من جلد البقر أو الحصان، ويربطها صاحبها عادة في مئزره حتى لا تقع منه أو أن يسطو عليها أحد دون أن يشعر، وتطورت المحافظ مع تطور الحياة فلم تعد ذات الجيب الواحد. أصبحت محفظة متعددة الجيوب عندما ظهرت البطاقة الائتمانية في خمسينيات القرن العشرين، وأخذت المحافظ تتطور في الأشكال والألوان والأحجام والأسعار دون أن يغير ذلك من وظيفتها إلا على نطاق ضيق؛ حيث أصبح البعض يضع فيها البطاقات الائتمانية بدلا من النقود، وبعضهم يجمع الاثنين، لكن ظلت الفوارق التي تعكسها قائمة؛ فهناك محافظ تحمل بطاقات ائتمانية ضعيفة ومحدودة ويجف النبع من أول سحب منها، وهناك بطاقات ائتمانية لا يجف نبعها مهما تكرر استخدامها، ولا تخشى جفافه بعد حين، وأصبح يمكن تمييز الناس من خلال محافظهم وبطاقات ائتمانهم، فهذا فقير، وهذا متوسط الدخل، وهذا مرتفع الدخل، وهذا رابع لا يُمكن أن يُصنَّف دخله تحت أي مستوى؛ فقد فاق الحدود الموضوعة للدخل، وبذا فاقت محفظته بقية المحافظ من حوله، ولو طرحت مبارزة لصاحب أثرى محفظة لتباين الناس، وظهر فائزون كنا نعد محافظهم لا تؤهلهم للفوز، والغريب أنه برغم هذا التباين إلا أن المحافظ الصغيرة ذات البطاقات الضعيفة هي من أوكل إليها التصدي لضعف المحفظة الأكبر مع تغييب دور المحافظ الأكبر شأنا في ذلك.
تمتلكُ الدول محفظة أو اثنتين أو ثلاث، تبعا لثرائها وقدرتها وهذه المحفظة الأصل فيها أن تكون استثمارية، سواء كانت عبارة عن مشاريع أو سندات، وكما هي محافظ الأفراد قد تكون محفظة الدول كبيرة غالية الثمن لا تنضب أموالها، وقد تكون هزيلة ضعيفة، فرغ منها ما تحمله، نتيجة عدم القدرة على مضاعفة ما بها، أو نتيجة الأخذ منها من دون حساب، ومن خلال ذلك تميز الدول ذات المحافظ الكبيرة والدول ذات المحافظ الضعيفة، فلم يعد الأمر سرا عندما تطورت وسائل الإعلام والمؤسسات الاقتصادية، فالدول تتباهى بمحافظها وما تحمله كما يتباهى الأفراد بمحافظهم، بل إن هناك دولا أنشأت محافظَ للأجيال التي لم تولد، حتى تملأ محافظهم عندما يولدون أو يكونون في زمن من الصعب فيه الحفاظ على حد معين مقبول من النقود في المحافظ، ولقد أطلق على هذه المحافظ صناديق، والصندوق هو أكبر من المحفظة، فهو يحمل أشياء كثيرة منها النقود، والمشاريع، والسندات، والاستثمارات، كي يكون مُمتلئًا باستمرار.
غير أنَّ محافظ الدول كمحافظ الأفراد عُرضة للتقلبات على الدوام، في السابق كان اللصوص وقطّاع الطرق يقطعون الحبال التي يربط بها الأفراد محافظهم، أما اليوم تجف المحافظ عندما يجف الاقتصاد ويُصيبه الركود، وعندما تضمر محفظة الدولة، يقل ما يدخل محفظة الفرد ويزداد ما يخرج منها، وتصبح المحفظة مصدر ألم بدلا من أن تكون مصدر استقرار وارتياح، وهذا الاضطراب في حالة المحافظ يقود أحيانا إلى عدم التفكير في محفظة ضعيفة لا يوجد فيها ما يمكن أن يؤخذ، وبين محفظة مكتنزة لن ينقص منها شيء مهما أخذ منها، ويمضي الكل رغم التباين بينهم يدعي عدم قدرة محافظهم على الوفاء بما هو مطلوب منها، وإن كان من الضروري أن تتصدر المحافظ الكبرى لإنقاذ الوضع دون نداء.