خطاب الإعلام العماني


"الشهادة.. الرؤية.. الأداة" (2)
د. مجدي العفيفي
(8)
في أول مؤتمر صحفي للسلطان قابوس مع رؤساء تحرير الصحف والمجلات المحلية عام 1974 كانت الومضة الأولى التي أضاءت الطريق الإعلامي، وأنارت درب السياسة الإعلامية "إنَّ الصحافة جزء من الحياة اليومية، ودورها كبير ومهم في الآراء والمعتقدات الأخلاقية، نحن لا نُريد لصحافتنا أن تكون وسيلة خصام، بل رسول سلام. لقد أصبحت الصحيفة في الوقت الحاضر هي الغذاء اليومي للرأي العام، نريدها صحافة رأي وخبر، رأي حر بناء ملتزم ناضج، قائم على الدراسة والفهم، وخبر صادق يهم المواطن ولا يعتمد على الإثارة".
على ضوء هذه الرؤية الأساسية والتأسيسية كان البناء والتشييد.. وبعد حصاد عشرين عامًا من عطاءات النهضة، تلمع إشارة مُضيئة محملة بإشادة رفيعة، بدور الإعلام العُماني، جاءت في ثنايا خطاب جلالة السلطان 18/11/1990 وتمثلت في قوله: "ونعبر في هذا المجال عن ارتياحنا لما يقوم به الإعلام العُماني من إبراز للمواقف التي تتخذها البلاد تجاه مختلف القضايا الإقليمية والدولية، وننوه على وجه الخصوص بالأسلوب الذي يتبعه في تناوله للأحداث بكل الصدق والموضوعية دون مبالغة أو تهويل".
في المساحة المتحركة بين هاتين الإشارتين، أخذت وسائل الإعلام طريقها إلى التشكيل، وراحت تمارس عمليات التجريب، ثم استقرت لتتكشف - بعد ذلك - قيمها وثوابتها بشكل أكثر وضوحًا وجلاءً، وقد تبنى معالي وزير الإعلام آنذاك « عبد العزيز بن محمد الرواس» عبر مجموعة من العناوين البارزة يمكن استقراؤها في: المواكبة، والمواجهة، والاستمرارية، والمساهمة في إشعال مصابيح التنوير في المجتمع.
فأما المواكبة فقد تجلت في سرعة صدور الصحف والمجلات، وغزارة البث الإذاعي والتليفزيوني؛ لتبني أطروحات فكر النهضة الحديثة والتشبع بالقيم الجديدة. وأما المُواجهة فقد تشكلت في التغلب على التحديات ـ آنذاك ـ وخاصة في المجال التقني والمهني، فالانطلاقة الإعلامية بدأت من الصفر، لاسيما وأنَّ السلطنة لم تكن فيها أية وسيلة إعلامية تحمل الصوت العماني، بشكل أو بآخر إلا بعد العام 1970 «إننا على طريق التقدم سائرون وخُطتنا المقبلة هادفة طموحة». والأجهزة الإعلامية المختلفة «قد نمت وترعرعت» خلال السنوات الخمس الأولى.
وأما المساهمة في إشعال مصابيح التنوير في المجتمع الناهض بالأمل والنابض بالعمل، فهي مساهمة فعالة من حيث قناعة الصحافة بدورها في مجتمع ينمو ويتطور، ولابد للكلمة المطبوعة من وجود وتواجد؛ لإشباع حاجة المتلقي للمعرفة من خلال نشرالأخبار، وتقديم التحليلات للقضايا التي تشغل بال المجتمع، وطرح الوسائل التي تربط الإنسان العماني بالعالم، فتصله وتطلعه على مجريات الأمور من حوله، وتؤكد قيمة الانتماء للوطن، والولاء للأرض والوفاء للمجتمع «في تصوري أن الصحافة يمكن أن تلعب دورًا رئيسيًا في صيانة الحريات، وتأكيدها، وتدريب المواطنين على ممارستها، وفي تصوري أيضًا أن الصحافة يمكن أن تلعب دورًا في تمكين كل مواطن من ممارسة حق التعبير عن رأيه وعن مشاعره» طبقا لتنظيرات السلطان قابوس.
(9)
ينسحب هذا التصور على كل الوسائل والوسائط لتتمكن من أن تضخ أهدافها وتصب أعرافها في شرايين الوعي الجمعي، تعميقًا لفهم التحولات التي يشهدها المجتمع، وتدور حلقاتها ويتواصل تحليقها في فضاء الرأي العام، تثبيتًا لمجرى المُتغيرات التي تتسارع ليستوعبها المجتمع في تشكيله الجديد، فالإعلام في منظور الخطاب له مهمتان «الأولى: هي نقل الحقائق كما هي، وأن يكون صـادقًا في نقل هذه الحقائق. والمهمة الأخرى: يجب أن ينقل الحقائق أكانت إيجابية أم سلبية، وبالصور التي تكون ذات مردود مفيد على المستمع والرائي والقارئ، أكان هذا الإنسان داخل السلطنة أم خارج السلطنة.
مثل هذا التوجه والتوجيه هو الذي غرس جذور الإعلام العماني في التربة العمانية، وحال دون أن تكون جذورًا في الهواء، فإن له هويته التي ينطلق منها، وله سمته التي يسعى لتأكيدها، وله صوته الذي يحمل خاصية الروح العمانية، وله صورته التي يحافظ عليها فيحفظ لمجتمعه منظومته القيمية بأصولها وحداثتها، خاصة وأن التطور النوعي والكمي في مجالي التنمية الاجتماعية والاقتصادية، اللذين شهدتهما عُمان على الصعيد الداخلي، واحترام العالم لدور عمان السياسي في الساحة الدولية، قد ألزما الإعلام بقواعد من العمل والممارسة، بضبط التوازن بين المحافظة على الهوية العمانية، وبين عملية التحديث والمعاصرة في عالم متغير ومتطور.
أما الذي وهب عمره لكي تتعمق هذه الجذور في الأرض العمانية الطيبة، فكان بينها وبين أن تكون جذورا في الهواء سنوات ضوئية… فهو معالي عبد العزيز الرواس.
(10)
لم أقابل من ينكر ذاته إنكارًا، بشخصه وشخصيته، مثل هذا الرجل القدير صاحب النفس المطمئنة الواثقة، مع أن وزراء الإعلام عادة لا يعيشون الطمأنينة إلا قليلا، بسبب نوعية العمل الإعلامي الذي يتطلب من صاحبه أن يسير على حد السيف؛ حيث اليقظة في اليوم الواحد 48 ساعة.. والمتابعة حتى في ساعات النوم القليلة، أو يفترض ذلك.
عن معالي عبد العزيز بن محمد الرواس أتحدث... هو شاهد.. وهو شهيد.. وهو أحد كبار الأشهاد على المجتمع، وعلى منطقة الخليج، وعلى تحولات إقليمية كبرى.
وشهادته شهادة حضورية، وعلم حضوري بموضع الشهادة، عن طريق السمع والبصر. والشهيد هو العارف بالشيء أو بالحدث الذي أدى شهادته للآخرين، أو هو على الأقل مستعد لأدائها أمامهم أي أن للشهيد، حتى يكون شهيدا، شرطين: الحضور بالسمع والبصر، ولديه أيضاً شهادة معرفة وخبرة مكتسبة، شهادة حضورية سمعية بصرية.
وإلى لقاء قادم... إن كان في العمر بقية!