الشرعية الاستثنائية لقضية الباحثين عن عمل

ضرورة تأسيس صندوق "إلزامي" يشارك فيه الأثرياء كنوع من التضامن الاجتماعي الحتمي

 

د. عبدالله باحجاج

أمامنا نصَّان مُختلفان في قضية الباحثين عن عمل؛ الأول: سامٍ؛ وقد عبَّر عنه عاهل البلاد المفدى -حفظه الله ورعاه- أثناء لقائه شيوخ وأعيان محافظة ظفار، ومنه ينتظر كل باحث بداية العام 2021 الذي ستنزل فيه فرص عمل، وهو يرفع التفاؤل بالاستحقاق في إطاره الزمني الموعود.

والثاني: وزاري؛ وقد عبَّر عنه وزيرا المالية والاقتصاد في مجلس الشورى؛ عندما ربطا التوظيف بالحاجة الفعلية له وبتوفير المال، ورغم سيادة النص السامي وأولويته على ما عداه، لكننا لن نقفز فوق ما أفرزه الوزيران من قلق لدى الباحثين.

وهذا القلق مُتعاظم اجتماعيًّا الآن بعد رفع الدعم عن الكهرباء والمياه، في مؤشر على توديع سريع للدولة الريعية في بلادنا، دون الاعتداد بمدى القدرات المالية والثقافية للمجتمع، والمقومات الاقتصادية لبلادنا التي تحدُّ من قوة اندفاعنا وحماسنا نحو الضرائب والمساس بالمكتسبات الاجتماعية؛ مما يُفقد كل التصريحات السابقة للمسؤولين -والبعض منهم على رأس السلطة- صدقيتها ومصداقيتها.

وبعد تغريدتنا عن "قوة الاستثناء" الذي تصطبغ به مرحلتنا الوطنية منذ يناير عام 2020، بحجة الأزمة النفطية وكورونا، ولجوء وزارة المالية إلى تبني مفهوم القهر لتنفيذ خططها المالية للتكيُّف مع الأزمتين، وجَّه لنا مسؤول رفيع المستوى ومؤثر التساؤليْن التالييْن: هل لك أن تقترح بعض الإجراءات الاستثنائية التي ستخلق 65 ألف وظيفة؟ وما هو الإطار الزمني المطلوب لذلك؟ هذه التفاعلية الإيجابية قد جعلتنا نُعمِل الفكر في التنظير وتطبيقاته، لفهم طبيعة ما تقوم به الحكومة من ردة فعل على الأزمتين، وتبيان أساسه الفكري، وما ينتجه فكرها في المقابل من إجراءات مماثلة.

وقد وجدنا أنَّ وزارة المالية تتعاطى مع الأزمتين -النفطية وكورونا- من منظور "نظرية الظروف القاهرة"، والتي تعطِّل السير الاعتيادي للأمور، وتمنحها "قوة الاستثناء" لمواجهة تِلكما الأزمتين بعد انكشاف حجم العجز والاختلالات في مالية الدولة، فتم تعطيل نظرية الظروف الطبيعية، وتغليب نظرية الظروف القاهرة، لكنها تطبق بقسوة على رواتب المواطنين وحقوقهم المكتسبة، وتعتبرها من منظور الحكومة شرعية استثنائية.

واتساقا مع هذا النهج، فإننا نتساءل: لماذا لا تطبق نظرية الظروف الطارئة على قضية الباحثين عن عمل؟ ونجد فيها لقوة الاستثناء مشروعية تطبيقها بصورة ملحة بعدما كشف الإحصاء الإلكتروني عن عددهم وهم أكثر من 65 ألف باحث وباحثة حتى 12 ديسمبر 2020، رغم أنَّ هذا الرقم لم يُشكل مفاجأة اجتماعية رغم كِبره؛ لأنَّ الاعتقادات كانت تذهب إلى أكثر من 100 ألف باحث؟

ليس هُناك من خيار آخر أمام الحكومة سوى سريان قوة الاستثناء على هذه القضية، وقبل الإجابة على تساؤلي المسؤول الرفيع، سنفترض أن الحكومة منشغلة الآن بالتفكير في هذه القضية بعد الكشف عن هذا العدد المقلق، ونفترض كذلك أنَّ أجهزتها الحكومة منعكفة الآن على تطوير مخططاتها وبرامجها لإيجاد فرص عمل لهذا العدد، ونفترضُ كذلك أنَّ انشغالاتها واعتكافاتها تنصب الآن على إيجاد الحل في الإطار الزمني المقبول، ونفترض كذلك أنَّ الانشغالات والاهتمامات بقضية الباحثين لها نفس قوة اهتمامات الحلول المالية تمس من جيوب المواطنين، فكيف سيكون إحراجات حلها لقضية الباحثين؟

علينا أولا أن نحدد المسلمات التي ننطلق منها، وهي:

1- أن اهتمام الحكومة بالبُعد المالي المعقد منذ يناير 2020، لا ينبغي أن يمنعها من الاهتمام بثلاثة أبعاد أساسية؛ هي: اقتصادية واجتماعية وإنسانية؛ وبالتالي ينبغي أن تتكامل هذه الجوانب الأربعة.

2- يُفترض أن تكون وزارة الاقتصاد الوطني قد أعدت خطة للتوازن الاقتصادي والاجتماعي والإنساني على غرار خطة التوازن المالي التي أعدتها وزارة المالية، وإلا، فماذا يعني إعادة إحياء وزارة الاقتصاد الوطني؟

3- أن يكون الأساس الفكري الذي بُنيت عليه خطة التوازن المالي هو نفسه الأساس لخطة التوازن الاقتصادي والاجتماعي والإنساني.

وهذا الأساس في جوهره قائمٌ على نظرية الظروف القاهرة لموازنة الدولة بسبب العجز التراكمي.. إلخ؛ وهذا الأساس نجد مشروعيته قائمة كذلك في العجز التراكمي لقضية الباحثين عن عمل، ومعنية به وزارة الاقتصاد الوطني أكثر من وزارة العمل؛ فهى المنتجة لفرص العمل؛ بينما الثانية هي المُشغِّلة والمُنظِّمة لها. وكل من تابع بدقة القرارات والسياسات المالية التي أُعلِن آخرها أمس، عبر إلزامية رفع الدعم عن الكهرباء والمياه، سيجد أنَّها قائمة على المشروعية الاستثنائية كبديل للمشروعية العادية؛ أي أنَّ الحكومة تعتبر أنها في ظروف قاهرة؛ وبالتالي عليها أن تواجهها باستثنائية زمنية ومكانية، فأحالت قهرا الآلاف إلى التقاعد، وسنت الضرائب ورفعت الدعم عن الكهرباء والمياه.. بمنطق الظروف القاهرة...إلخ.

ومن هذا الفكر، تتناغم قضية الباحثين عن عمل "تراكميا" مع عجز التراكم المالي، ومن ثم فهذه المشروعية الاستثنائية ينبغي أنْ تسري كذلك على قضية الباحثين عن عمل؛ فتأثيراتها السلبية لن تقل عن تأثيرات العجز المالي واختلال الاستدامة المالية، بل إنَّ تأثيراتها ستطال كل سير طبيعي أو استثنائي.

ونخرُج مِمَّا تقدم بالنتائج التالية:

1- مثلما سمحت الحكومة بالتدخل الاستثنائي الإلزامي لحل إشكالية العجز المالي، ينبغي أن تتدخل بالآلية نفسها لحل التراكم العددي المقلق للباحثين عن عمل.

2- منطق وقوة الاستثنائية في التفكير وفي منتوجاتها وتنفيذها في قضية الباحثين عن عمل، هو من حتميات التعاطي العاجل لقضية الباحثين بعد انكشاف الأعداد الكبيرة التي تتنظر الحق في العمل.

3- تبنِّي الشرعية الاستثنائية والإلزامية في صناعة التوازن المالي يتسبب في تعميق الاختلالات البنيوية للأسر العمانية من حيث المبدأ؛ فكيف لو تقاطع معها العجز التراكمي للباحثين عن عمل؟

لذلك؛ هذه القضية أصبحت من كبرى المشاكل التي تُؤرِّق كل بيت عُماني، ولها تداعيات على الأمن والاستقرار في البلاد، وهذا مبرِّر قوي للشرعية الاستثنائية لإيجاد عمل لأكثر من 65 ألف باحث وباحثة في إطار زمني معقول.

وعلينا أن نُضيف للشرعية الاستثنائية لقضية الباحثين عن عمل بُعدًا داخليًّا وخارجيًّا، يفرض نفسه بقوة على مرحلتنا الوطنية، وهو وجود قوى تغيير جديدة، بعضها مخيف، مهمتها التاريخية استغلال الاختلالات والتناقضات الداخلية للدول لاختراقاتها القذرة، وقضية الباحثين وبعض القرارات المالية، تفتح لها الأبواب على مصاريعها للدخول، كعودة الحزب الديمقراطي للبيت الأبيض الأمريكي، وكلنا نعرف استغلاله لقضايا حقوق الإنسان والحريات والأقليات، كأداة لتحقيق أجندته، وكذلك الوجود الصهيوني على بعض جهاتنا الإقليمية التي نتعاطى معها اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا...إلخ.

فهل نواجه مثل هذه التحديات بشباب عاطل، لا دراسة ولا عمل؟ وهل نواجهها بمجتمع يصارع فواتير المياه والكهرباء ولقمة العيش؟

قبل أن نرسم خارطة بفرص العمل وفق قاعدة الشرعية الاستثنائية، علينا أولا أن نحلل أرقام الباحثين عن عمل، كما وردت في التعداد الإلكتروني، من حيث الماهيات التالية: السن والمستوى التعليمي والجنس، فهى تعطينا في حد ذاتها رؤية للحلول استثنائية.

- هناك 65438 باحثا عن عمل؛ منهم 40879 باحثة و24559 باحثا، فماذا ينبغي أن يذهب بنا الفكر في هذه الرؤية الرقمية؟

- الفئة العمرية: من 25-29 عاما وعددهم 25166 باحثا وباحثة، ومن 20- 24 عاما فهل نتأمل فيه العلاقة بتحديد سن التقاعد الجديد؟

- المستوى التعليمي جاء الأولى حاملي البكالوريوس وأعلى وعددهم 24301 باحث وباحثة، يليهم حملة الدبلوم ومن ثم ما بعده.

تفاصيل هذه الأرقام تُحددنا، وإذا ما غلبنا منطق الشرعية الاستثنائية التي تنتجها نظرية الظروف القاهرة، فإنَّها تُرشد الفكر بالضرورة إلى حلول استثنائية لقضية الباحثين عن عمل، وليس هناك من خيار سوى تبنيها، كما تبنينا حلولا مؤلمة اجتماعيا لقضية الاستدامة المالية وحل العجز التراكي للديون، وسنحدد هذه الحلول في النقاط التالية:

- تأسيس صندوق "إلزامي" يشارك فيه الأثرياء في البلاد؛ كنوع من التضامن الحتمي، وأن يُحدد مبلغه، في حين أن طبيعة أهداف الصندوق؛ تتمثل في: تمويل برامج التأهيل والتدريب لإحلال الباحثين محل الوافدين في المجالات التي يشغلونها بعد أن يكون قد تمَّ الاتفاق مع الشركات الكبيرة -الحكومية والخاصة- على عملية الإحلال والتعمين وفق خطة ممنهجة بأجل زمني محدد، ودون الإخلال بسير العمل في الشركات.

- كل من لم يتجاوز متطلبات التأهيل والتدريب، يتم تدويره في مجالات أخرى، وكذلك صرف إعانات مالية لِمَن لم يشملهم البرامج التأهيلية للظروف التي تستجد أثناء تطبيق هذا المقترح.

- تمويل المقاعد الجامعية التي قلصت الحكومة من أعدادها بسبب الضائقة المالية.

- توسيع التجنيد العسكري والمؤسسات الأمنية باعتبارها القطاعات الحيوية المتجددة، ولديها مصادر دخل ضخمة، وبعضها مستقلة.

- إقامة مشاريع ضخمة في مدة زمنية قصيرة في المحافظات الكبيرة نسبيا، خاصة في القطاعات الاقتصادية التي تزخر بها كل محافظة.

- إقامة شراكات اقتصادية ذات نفع متبادل مع الصناديق السيادية الخليجية.

- اللامركزية في التخطيط والتنفيذ مع التنسيق الكامل.

تلكم استحقاقات الشرعية الاستثنائية لقضية الباحثين عن عمل، والتي ينبغي أن تأتي متزامنة مع الإعلان عن فرص عمل كما وعد به عاهل البلاد -حفظه الله- شعبه؛ لأنَّ القضية استثنائية في ظرف استثنائي، وبالتالي الحل لا بُد أن يكون استثنائيا يستوعب ذلك العدد الكبير، مع الأخذ بعين الاعتبار الإطار الزمني للحل، وبنية الباحثين عن عمل من حيث ما ذكرناه سابقا.

ولا نتوقَّع أن تتحمَّل هذه القضية المزيد من التأجيل أو التسويف أو الحلول الجزئية، مثل قضية تراكم الديون والعجوزات التي لن تتحمل مزيدًا من التراكمات؛ فالرؤية بالمخاطر ينبغي أن تكون شاملة، وإلا: هل تعتقد الحكومة أنها ستحافظ على الاستقرار الاجتماعي بسياساتها المالية المؤلمة حتى مع التلويح بحماية الطبقة الضعيفة؟

كلُّ الطبقات باستثناء الغنية، تدخُل الآن في تصنيفات الضعف بعدما طالتها الشرعية الاستثنائية القهرية، فكيف إذا تقاطع معها تجاهل قضية الباحثين عن عمل وتراكماتها؟

الأكثر قراءة