"المُقاعَدون".. فصل جديد لحياة أخرى

مسعود الحمداني

Samawat2004@live.com

أيَّام قلائل ويودِّع من تبقّى من مئات الموظفين المحالين للتقاعد أعمالهم الحكومية، مِمَّن أمهلهم القدر حتى نهاية هذا العام، سيترُكون كلَّ ما بنوه خلال سنواتهم الطويلة وهم على رأس أعمالهم، سيواجهون واقعا مختلفا، قد يبدو لدى بعضهم فرصة أخرى للحياة والبناء، وقد يبدو لدى آخرين منهم مأساويا، وغير ما حلموا به، سيودِّع هؤلاء الموظفون مكاتبهم، كما ودَّعها قبل أشهر مئات غيرهم، ممن تجرَّعوا مرارة التقاعد المفاجئ بقرار وزاري كان ينتظرهم في اليوم التالي للإعلان، وسيتركون مكانهم لغيرهم ليُكملوا مسيرة بناء هذا الوطن العظيم.

مِئات من الموظفين الذين وجدوا أنفسهم -دون سابق إنذار- وجهًا لوجه أمام القدر، سيألفون الفراغ الكبير، وسيؤلّفون الحكايات الطويلة التي جرت مع مديريهم أو رؤسائهم أو مرؤوسيهم، ولن يَرحمُهم قرض بنكي، وسيكُونون غرباء في وزارات أسهموا في بنائها من الصفر، ولن يستقبلهم أحد بنفس التقدير السابق، سيجدون وجوها غير الوجوه التي ألفوها، وتعاملوا معها، قد يجدون شابا حديث عهد بالعمل يوبّخهم، أو يردّهم على أعقابهم، أو يعدهم بمواعيد عرقوب التي كان بعضا منهم يعدها للمراجعين منذ زمن، ستُترك المكاتب فارغة على عروشها، وستنتهي أحلام من حلموا بمنصبٍ كبير ذات يوم، فإذا هم -دون سابق إنذار- خارج اللعبة، يندبون حظهم، ويلعنون الظلام، سيعرف بعض المسؤولين "المُقاعَدين" أنَّه لا يبقى سوى الأثر الطيب، والسيرة الحسنة، وأن من استماتوا لإرضائهم -ذات سرَّاء- ما هم إلا أصدقاء لحظات الرخاء، وما هم سوى طلاب مصالح ومناصب ومكاسب.

ستختلف حياة مئات المُتقاعدين عن ذي قبل، وستُثقل كواهل كثير منهم القروض التي ستؤرقهم إلى حين الممات، وسيضطر بعضهم لجدولة قرضه، فإذا هو يواجه تنِّينا ناريًّا ضخما يسمى البنك، يلتهم ليس فقط راتبه، بل يلتهم حياته ومدخراته، ولعل مسألة "إعادة الجدولة" فخٌّ سيقع فيه كثيرٌ منهم مُضطرين، وكان على الدولة -من باب درء الضرر- إما أن تُسقط القروض، أو أن تتحمل عنهم الفوائد على أقل تقدير؛ لأنها هي من وضعتهم أمام هذا الوضع الحرج.. أمَّا أن تضعهم في مُواجهة مع البنوك لفرض شروطها، فذلك شيء عُجَاب.

غدًا ستغرُب شمس، وتُشرق شمس، وسينتظر المتقاعدون مكافآت نهاية الخدمة التي لا تساوي سنوات خدمتهم، والتي أصبحت قشة النجاة التي يتمسّك بها كثير منهم ويحلم، بعد أن ظل سنوات ينتظر الترقية التي لم تأتِ، وقد ينتظر المتقاعد طويلا ليتسلَّم هذه "المكافأة"، والتي ما زالت سؤالا مُعلّقا دون جواب: هل ستصرف دفعة واحدة؟ أو ستصرف على دفعات؟ أو أنها لن تصرف أبدا؟ فالوضع المالي لا يسُر، وهو الشمَّاعة التي يعلق عليها المسؤولون كل الإجراءت، والتبعات، والقرارات التي ما زالت تتوالى.

ولعلَّ الخُطوط العريضة لمشروع التقاعد الجديد الذي أعلن عنه مُؤخرا، جاء ليغلق الباب أمام من يفكر في التقاعد مبكرا، وهو ككثير من القرارات المصيرية التي صدرت، وخلقت نوعا من البلبلة والتكهنات والتخمينات في الشارع؛ وذلك لغياب جهة مركزية لديها التفاصيل الواضحة، والشفافية الكافية للإجابة عن الأسئلة التي يطرحها المواطن، ومع كلِّ ذلك فالجميع يتمنَّى أن يجد في بعض هذه القوانين ضَوءًا يرى من خلاله مستقبل الأجيال اللاحقة.

غدا.. يومٌ آخر في حياة مئات المتقاعدين الذين أمهلهم رؤساء وحداتهم هذه الشهور القليلة، قبل أنْ يَحِين موعد رحيلهم إلى حياة التقاعد التي ما زالت بالنسبة لبعضهم عالمًا مجهولًا لم يألفوه، وبيئة لم يعتادوها، ورغم كل ذلك نقول: "إنَّ الغد أجمل"، ولعل التضحيات -أو التضحية- بهؤلاء الموظفين لن تَذهَب سدى لتصبح عُمان أفضل رغم كل شيء.