الشكر.. عملة نادرة!!

 

عبدالله الفارسي

 

بعد كل مقال يُنشر في هذه الجريدة الراقية يصلني تعليق رقيق ورهيف كخيوط الغيم يُداعب روحي فيُحيلها إلى فراشة صغيرة تتراقص فوق أغصان باسقة وتتقافز على أزهار مُزركشة ملونة.

صديق مصري عزيز، لا أعرفه حقيقة ولم اسمع صوته بعد ولا أعرف رقم هاتفه ولم أرَ لون عينيه، ولكن تصلني منه كلماته الرقيقة باستمرار بعد كل مقال لتدفعني إلى الأمام، وترفعني إلى السماء، الرجل هو صديق لأستاذي الرائع حاتم الطائي فهو الذي يُرسل له خربشاتي الأسبوعية وهلوساتي الليلية، فيرسل الآخر تعليقاً فورياً عليها، والذي بدوره يحولها لي، لتمنحني البسمة وتحقنني بالنشاط والثبات والفرح.

 كم نفتقد إلى من يقول لنا شكرًا؟ كم ينقصنا منهج الشكر وعقيدة الامتنان. "التعزيز" مدرسة نفسية عظيمة ومنهج أخلاق راقٍ.

من خلال رحلتي الطويلة في التعليم أذكر مديراً مرَّ علينا ذات عام، مدير مدرسة مصري الجنسية مدير عجيب وجميل، كان دائماً ما يرفع من معنوياتنا، في طابور الصباح كان يُخصص خمس دقائق لمدح المُعلمين وشكرهم والثناء عليهم كلهم وبالأسماء دون استثناء المجيد منهم والمهمل الكسول منهم والنشط.

كان يطوف على الصفوف صفاً صفاً، ملقياً في وجه كل معلم عبارة جميلة، وكلمات لطيفة (ما شاء الله تبارك الله يا أستاذ، ماهذا النشاط ماهذا الإبداع، الله يقويك، رائع أستاذي، بوركت أستاذ، عفارم عليك أستاذ، بسم الله ماشاء إلى الأمام يا أستاذ،. إلخ).

عبارات صغيرة خفيفة تخرج من اللسان لكنها ثقيلة الوزن في ميزان الأفئدة والأرواح، إنها تدفع المقصر إلى الاجتهاد، وتجبر المُتهاون على الإخلاص والجد والاجتهاد، إنه منهج الشكر العظيم المفقود.

لا أعلم ربما أكون حساسًا أكثر مما ينبغي، أعتقد بأنَّ المسيحيين يحتفلون بعيد "الشكر" في كل عام لأنهم يدركون أنَّ هذه الفضيلة النادرة تكاد تنقرض كما أنقرضت نمور تسمانا والدلفين الصيني الأبيض، لذلك هم يحيون عيد الشكر كل عام، ويحرصون عليه، هذا مجرد افتراض غير مُؤكد!!

 منذ أيام تورطت وأرسلت رسالة شكوى وتذمر إلى بعض أصدقائي الذين أرسل لهم مقالاتي الأسبوعية، كنت أبحث عن تعزيزهم لي ورفعهم لمعنوياتي، أعتقدت بكل سذاجة أنني أعيش في مجتمع يمنحك الأجنحة لتحلق، ويزرعك بالريش لتطير. فالإنسان يحتاج إلى الثناء ليستمر، ويحتاج إلى الشكر ليُواصل ويحتاج إلى الدعاء ليرتفع ويتقدم، رغم يقيني بأنني أعيش في مجتمع يقص أجنحتك قبل أن تنمو، ويقطع ساقيك قبل أن تمشي وتسير، ولكني نسيت هذا اليقين خلال زوبعات التفاؤل التي تعصف بي في بعض أيام من السنة!!

قلة قليلة جدًا جداً من أولئك الذين أرفع لهم مقالاتي كل أسبوع قال لي (شكراً لك على مقالاتك/ أنت مُميز/ مقال جيد/ قصة جميلة/ موضوع مُثير/ أعجبني مقالك/ واصل ولا تتوقف)؛ كلمات بسيطة مجانية لا تكلف فلساً واحداً، عاتبتهم كلهم بحب وافر: لماذا لا تشكرونني أيها الأحبة، لماذا لا تعلقون؟

وصلتني أكثر من رسالة وأكثر من رد تعقيباً على عتابي هذا، بعضها أغرقني بالاعتذار، وبعضها رشني بالانكسار، أما آخرها فقد غمرني بالحزن والأسى والانهيار، نعم بالحزن والأسى والانهيار.

فقد اتصل بي صديق عزيز، زميل من زملاء الجامعة، وأحد متابعي شخبطاتي وهلوساتي الطريفة، اتصل بي معتذراً، متأثرًا من عتابي وشكواي، مبتدئاً بأسف جميل، واعتذار رقيق على نضوب التواصل، وجفاف المشاعر. اعتذر لي لأنَّه كان من ضمن المتهمين بالتقصير معي، وذلك بناءً على درجة الصداقة التي تجمعنا، وعمق العلاقة التي تربطنا. لقد اتصل بي، ولم يكتفِ بالرسالة، فقد أراد أن يسمعني صوته، ويوصل لي همه وغمه. لقد حدثني عن "الشكر" هذه الكلمة الغريبة، وهذا المصطلح اللغز. لقد أراد أن يُؤكد لي أن كلمة "الشكر" كلمة لا توجد في معجمنا الحالي وأنها كلمة غريبة، ومصطلح أعجمي مجهول لا ينتمي لثقافتنا العمانية أو ربما العربية.

نعم.. لقد أكد لي أنَّ مصطلح "الشكر" أصبح مفقودا حتى في نطاق الأسرة الصغيرة، لقد أثبت لي أن مفهوم "الشكر" أضحى معدوماً بين الزوج والزوجة، وبين الأب وأبنائه، وبين الأم وبناتها وبين القريب وأقاربه.

لقد قال لي صديقي بكل أسف وحشرجة أنَّه لم يسمع كلمة "شكرا" في محيطه الذي يعيش فيه منذ أكثر من 12 عاماً، لم يسمعها من أقرب الناس إليه وأحبهم إلى قلبه،. رغم سخائه وعطفه، وكرمه معهم.

قال لي ضاحكاً بروحه المرحة وبطبيعته المدهشة،. بأنه غالباً تقتحمه الدهشة ويتلبسه الذهول حين يسمع كلمة Thanks بين زملائه الأجانب في العمل! ما زال الأجانب يتداولون هذه العملة التي انقرضت من مجتمعنا!!

أخبرني قصة قصيرة مُؤثرة، يقول: ابني أنهى دراسته الثانوية الصيف الماضي، وهو في انتظار منحة السفر إلى دولة أجنبية بعد أيام قلائل، يقول: قررت أن أكافأه بمبلغ محترم وأضعه في حسابه حتى يتجهز للسفر، ويشتري ما يحب ويشتهي، ويبتهج ويتنقنق. وقد سلكت هذا النظام منذ أن كبر أولادي فقررت أن أفتح لكل واحد منهم حساباً بنكياً، وأضع لهم مصروفهم الشهري في حسابهم حتى أجنبهم حياء الطلب، ومؤونة الإحراج من والدهم، ولأعودهم على عزة النفس، والثقة بالذات والوقوف أمام الجميع بثبات وإتزان.

ومنذ سنوات وأنا ملتزم بطريقتي هذه لم أتأخر فيها شهراً واحداً، ومع ذلك لم أسمع يوماً من أحدهم كلمة "شكرا يا أبي"، و"شكرا أيها الأب الغالي"!

ياالله كم اتلهف لسماع هذه العبارة من أحد أبنائي؟ كم أشتهي سماعها قبل أن أموت وأندثر؟!

المهم.. استأنف صديقي قصته، يقول: وضعت في حساب ابني مبلغاً كبيراً، وانتظرت أن يرسل لي رسالة، على الأقل ليُؤكد لي وصول المبلغ. وانتظرت يوماً، يومين، ثلاثة أيام، لم تصلني رسالة من ابني. فتلبسني القلق، واقتحمني الارتياب وتوجست خيفة من سوء الظن، فقد ظننت أنَّ المبلغ لم يصل إلى حساب ابني وأنه ربما ذهب بالخطأ إلى حساب شخص آخر فالمبلغ لم يكن مبلغاً بسيطاً.

فأرسلت رسالة أقول له فيها: هل وصلك المبلغ؟ فجاء الرد بعد لحظات: "أيوا". تخيل! كان رد ابني بكلمة "أيوا" فقط!! "أيوا" جافة، حافة، مرة، مالحة، لا تحمل رائحة الاحترام، خالية من نكهة الشكر والحب والامتنان.

بدأ صوت صديقي يتلون ويغيم، حاملاً زخات من الأسف، ولوعات من الضيق والأسى والحسرة، فقال بكل كبرياء الأب المُخلص: هذا رد ابني البكر الذي لم ادخر جهداً أو مالاً في منحه كل ما يحب ويشتهي في هذه الحياة طوال الثمانية عشر عاماً الماضية من عمره، وأنت يا "أبا يزيد" تعاتب جماعة من المعارف لا تعرفهم ولا يعرفونك، وتطلب منهم أن يقولوا لك "شكراً "على مقالات ربما نصفهم لم يفهمها، والنصف الآخر لم يفتحها حتى؟! بالله عليك، أين تعيش أنت، في أي كوكب تنام؟!

يبدو أنَّه انتهت حقبة "الشكر والثناء" منذ أن دفنا آباءنا، والآن لا يعيش بيننا سوى "النكران والنسيان والجحود"، إنه زمننا، ولابُد أن ندوس على كل أشواكه، ونتجرع كل مراراته!

انتهت حشرجات صديقي، وجفت حروف قلمي.