ما الحالة المادية للأسر العمانية؟

 

د. عبدالله باحجاج

تساؤل عنوان المقال سيكون محورَ استطلاع "هاتفي" لقياس الحالة المادية للأسر العمانية، وفقا لما نُشِر في الصحف، نقلا عن المركز الوطني للإحصاء والمعلومات، الذي سيجري الاستطلاع.

وفي الوقتِ الذي كُنت مُنشغلا فيه بكتابة هذا المقال حول القضية نفسها بعنوان "المجتمع العماني في العام 2021"، فإنَّ هذا التلاقي، لا من حيث التوقيت، فهو معلن سابقا، وإنما من حيث جوهر القضية، يُفصِح عن الهاجس المشترك والنوعي للكشف عن المآلات التي ستؤثر على الأسر العمانية من جراء القرارات المالية والسياسات التي اتُّخذت ولها انعكاسات على الأسرة خاصة والمجتمع عامة.

وهذا التلاقِي من جهتي مردُّه وجود حالة انشغال ذاتية بتساؤل مهم، لن أبالغ إذا ما قلت إنه انشغال يومي، ويتعاظم مع تعاقب الأيام، خاصة بعد وضع خطة مالية لأربع سنوات مقبلة، ركزت على التوازن المالي حصريا، والحصرية ليست لمواجهة تحديات هذه السنوات فقط، وإنما لكي تهيئ الأرضية لانطلاقة تطبيق رؤية "عُمان 2040"، والتساؤل هو: كيف يمكن للدولة أن تمنع التأثير البنيوي للضرائب والرسوم ورفع الدعم والتقاعد الاجباري على الأسر خاصة والمجتمع عامة؟

وقبل أنْ استرسل في رصد ماهيات وأحجام التأثيرات، أسجِّلُ أولا التساؤلات التالية على الاستطلاع الهاتفي الذي سيجرى بدءًا من اليوم على 1500 عينة:

- كيف سيتم اختيار شرائح العينة؟

- ما مدى دقة ونفاذ وصحة وعدالة ومساواة هذا النوع من الاستطلاعات؟

- كيف إذا ما جاءت نتائجها مخالفة للواقع الذي نعيشه ميدانيا؟

كلنا تابعنا الإشكاليات الناجمة عن الاستطلاعات الإلكترونية؛ وبالتالي نخشى أن يطغى على مثل هذه الاستطلاعات التحليل، وتجاهل الواقع الناجم عن القرارات المالية التي اتُّخذت منذ يناير 2020 وحتى الآن، والتي سيكون لها تأثير عميق، وسيمس بنيات وأركان الأسر والمجتمع معا، وكل من يعتقد أن التأثير سيطال فقط الطبقة الضعيفة فقط حتى يراهن على نظام حمايتها، فهو لا يعرف المجتمع، كما لا يمكن أن يقاس مجتمعنا بالمجتمعات الغربية التي تعيش وفق منطق "نفسي نفسي".

فما عُمق هذا التأثير البنيوي على الأسرة والمجتمع؟

الكثير من الجهات داخل الدولة ينبغي أن تكون معنية بهذا التساؤل؛ لأننا نؤمن بأن النهضة المتجددة ينبغي أن تؤسَّس على مجتمع قوي، والمجتمع القوي هو أهم الدروس السياسية التي توارثناها من حقبة مؤسس النهضة، وبهذا النوع من المجتمع، تمكنت بلادنا من مواجهة تحديات مصيرية داخلية وخارجية.

ومن الواقع الميداني، هناك فعلًا مخاوف حقيقية من السياسات والقرارات المالية على قوة ووحدة المجتمع، ويمكن أن نحصرها في مشهدين مفترضين، وهما يمثلان خلاصة التجاذبات والطروحات للرأي العام والكثير من النخب؛ وهي:

- مشهد فقراء وأغنياء.

- مشهد زيادة أعداد الطبقة الضعيفة.

وهذان المشهدان قابلان للتحليل الموضوعي، وكل واحد منهما له تداعياته الخاصة به؛ فالمشهد الأول يحمل دلالة تآكل الطبقة الوسطى، وحصرها في مشهد الثنائية غير متناغمة: "الفقراء والاغنياء". أما المشهد الثاني فيُسلم ببقاء الطبقات الثلاث مع نزول الآلاف من أفراد الطبقة الوسطى للطبقة الضعيفة. ولو سلمنا بالرأي الأخير، فإنَّ ثمة تداعيات تكمن في زيادة الفوارق الاجتماعية، واتساع الفجوة بين الطبقات الاجتماعية مع انخفاض قوتها الشرائية. فهل نظام الحماية الاجتماعية سيكون كافيا لتأمين احتياجات هذه الطبقة؟ ويظل عدد أفراد هذه الطبقة بعد انضمام الأعضاء الجدد إليها، هي القضية الكبرى، فكم عدد الطبقة الضعيفة قبل القرارات وبعدها؟!

أما إذا سلمنا بالمشهد الأول، فإنَّ تداعياته ستكون اختفاء الطبقة الوسطى، وكما نعلم، فهى المحرك الاقتصادي سواء من حيث الإنتاج أو الاستهلاك، ونجدها، الطبقة الأكثر تأثرا بالقرارات المالية، كفرض ضرائب جديدة أو زيادة الرسوم أو رفع الدعم.. وهى كما يصفها البعض، الخط الفاصل بين الفقراء والأغنياء، فكيف نحافظ على هذا الخط؟

لن نرجح هنا مشهدًا على آخر، رغم توافر أرقام وإحصائيات رسمية عن عدد المتقاعدين بشقيه القانوني والإلزامي، وعدد حالات الضمان الاجتماعي، وعدد كبار السن والأطفال والشباب والنساء من العمانيين الذين لم يبلغوا 3 ملايين نسمة، وكذلك توافر إحصائيات وأرقام رسمية عن مستويات الرواتب في القطاعين الخاص والعام، ويمكن من خلالها تحديد الطبقات وأعدادها، وكذلك مستقبلها القريب أو المتوسط بسبب القرارات المالية والاقتصادية الجديدة.

ومن خلال تلكم الآلية، مع الأخذ بعين الاعتبار حجم المديونية الاجتماعية، سنتعرف على حجم دخل الأسرة العمانية بصورة أكثر دقة ومساواة وعدالة، وهذه المهمة سنتركها للجهات المعنية بالتوازنات الاجتماعية، إنْ كانت موجودة، أو كانت تشغلها الآن مثل هذه القضايا المهمة.

سنركِّز على الثابت غير المختلف عليه، وهو أنَّ القرارات المالية ستكون لها انعكاسات اجتماعية سلبية جدًّا، وستظهر بصورة متصاعدة بدءا من العام 2021، في ظل ما تعانيه الأسر كذلك من مجموعة ظواهر؛ كالباحثين عن عمل، وارتفاع حالات الطلاق، والتسريح، والديون..إلخ؛ وبالتالي كل المؤشرات تشير إلى أن التغييرات ستكون عميقة على الأسر، وسيمتد تأثيرها إلى أدوارها الاجتماعية وتوازناتها؛ سواء تلكم التي تنتمي إلى الطبقة الوسطى أو الميسورة.

فمثلا: كم من أسر الطبقة الوسطى ستتمكن من الاستمرارية في تعليم أبنائها في المدارس الخاصة أو تمويل دراساتهم الجامعية في الداخل والخارج؟ أو الاستمرار في نفس قوتها الشرائية خلال عام 2021؟ من هنا تأتي معرفة كم سيهبط من الطبقة الوسطى إلى الطبقة الضعيفة؟ في المقابل كم سيهبط من الطبقة الميسورة إلى الطبقة الوسطى؟

الهبوط هنا وارد لا محالة، لكن العدد هو الذي يشغلنا، ولو عرفنا العدد، سنحكم عقبها حول مدى كفاية مظلة الحماية الاجتماعية، من حيث الكم والمضمون، في عالم التقنية والثورات الصناعية.

ولن ننسى التحديات الجيوسياسية لبلادنا التي قد تؤثر على مكوننا الديموغرافي، وقدر بلادنا أنْ تكون في محيط إقليمي مستدام بمثل هذه التحديات، ويضاف إليها الآن بروز تحديات قوى جديدة للتغيير في الخليج، بعضها قد دخلت الخليج، والأخرى ستدخل في العشرين من يناير 2021، وستجد الأبواب مفتوحة لها لكل أنواع الاختراقات لتحقيق أجندتها.

ومنذ عهد المؤسِّس السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- عاشت بلادنا في تحد متيقظ وعالي الذكاء بصورة دائمة لمواجهة مثل هذه التحديات حتى لا تؤثر على ديموغرافيتها وجغرافيتها التنافسية. لذلك من الحتميات أن تنشغل بلادنا بهذه التحديات منذ تأسيس نهضتها المتجددة، هذا من بين الأقدار التي لا يمكن تجاهلها أو حتى تناسيها لحظة واحدة، وستظل حاكمة لشأننا الداخلي، ومؤثرة في إستراتيجياته وسياساته الداخلية والخارجية معا، فإلى أي مدى يشغلنا هذا القدر بمستجداته الإقليمية التقليدية والحديثة، ودخول فاعلين جدد إلى الصعيدين العالمي والخليجي؟

عندما نفكِّر في هذه التحديات ونقارنها بإدارتنا المالية، نرى أنَّ هذه الإدارة لا تأخذ بعين الاعتبار هذه التحديات، بل نرى أنَّها تسحب من المجتمع كل شروط المواجهة، وترمي بها في سيناريوهات كلها سلبية، ونعلم يقينًا، ماهية العلاقة بين الأوضاع الداخلية لأية دولة ما وبين محاولات الخارج للتدخل فيه، كما أشرنا في إحدى تغريداتنا الأخيرة عبر "تويتر"، وضربنا أمثلة على ذلك.

لذلك؛ يحتم على العقل السياسي للدولة أن تُجرى مراجعة للسياسات المالية التي اتُّخذت منذ عام بداية عام 2020، خاصة بعدما ارتفع سعر النفط العماني إلى 50 دولارًا للبرميل، وبعد عودة الأنشطة التجارية والاقتصادية للعمل انعكاسا لخروج العالم من عنق زجاجة كورونا. فهاجس المجتمع القوي للنهضة المتجددة ينبغي أن يكون من ضمن استهدافات السياسة المالية والاقتصادية، وليس على حسابه، فقوة بلادنا في الثنائية المتزامنة، الخشنة والناعمة، ولا يمكن الرهان على الاستقرار الشامل إلا بهما فقط.

الأكثر قراءة