اللقاح ودروس الجائحة

حاتم الطائي

انتصار العلم وإنتاج اللقاح نقطة تحول جديدة في مسيرة الحضارة الإنسانية

الاستثمار في القطاع الصحي يزيد من العوائد الاقتصادية والاجتماعية

التحول نحو التكنولوجيا والخدمات الإلكترونية يمثل حاجة ماسة

حقيقة مُؤكدة أُعلنت خلال الأيام القليلة الماضية، مفادها "انتصار العلم"، وسيادة المعرفة على الجهل، وتفوق الفكر الإنساني، وذلك بفضل ما منحه الله للإنسان من مزايا وخصائص تُساعده على مُقاومة التحديات ومُجابهة المخاطر، من خلال السعي الدؤوب لطرح أفكار ورؤى نيِّرة تنتشله من براثن الأزمات وتعينه على التطلع لغد أكثر إشراقًا.

وانتصار العلم الذي نتحدَّث عنه تحقق بالأمس القريب مع بدء توزيع اللقاح المُضاد لفيروس كورونا المُستجد المسبب للوباء الذي نكتوي بنيرانه منذ فبراير الماضي. نعم انتصر العلم لأنَّ الإنسان لم يركن إلى مخاوفه ولم يُهادن مع أصحاب نظرية "مناعة القطيع".. فلقد برهن العلم قدرة الإنسان- بحول من الله وقوته- على إنتاج عقاقير وأمصال من شأنها أن تُزيح شبح الموت الذي طارد أكثر من 71.7 مليون مصاب بفيروس كورونا حتى الآن، وتمكن من اقتناص أرواح ما يزيد عن 1.6 مليون مريض منذ بدء الجائحة. رجحت كفة العلم في مُقابل انهيار كفة الجهل والخرافات، تفوقت النظرية العلمية وتقنيات إنتاج اللقاحات المرتكزة على أحدث ما توصلت إليه البشرية في هذا المجال، وانهارت تماماً مزاعم البعض بعدم مأمونية اللقاحات بشكل عام؛ إذ ليسوا سوى ثلة من البشر يعتقدون في نظرية المُؤامرة والشك في كل شيء، ويروجون لمزاعم خاطئة ستؤدي حتمًا إلى مزيد من الوفيات والإصابات، إذا ما صدقها الناس. لقاح كورونا الآن، والذي تعكف على تطويره أكثر من 300 شركة حول العالم، وصل إلى مراحل مُتقدمة للغاية، منها نحو 4 لقاحات حصلت على المُوافقة للاستخدام الطارئ، وبدأت عدة دول حول العالم تتسلم الآلاف من الجرعات منه، فيما بدأت دول أخرى تطعيم مواطنيها وفق أولويات الفئات التي حددتها منظمة الصحة العالمية.

وبعد ما يزيد عن 11 شهراً من التوتر والقلق الممزوجين بالخوف من المُستقبل، يمكن أن نقول إنَّ العالم بدأ في تنفس الصعداء مع انتشار الأخبار السارة ببدء تصنيع اللقاح وحصوله على المُوافقات الطبية اللازمة، فضلاً عن شروع حكومات في تطعيم رعاياها. لكن من المُؤكد أنَّ أزمة فيروس كورونا تفتح الباب أمام سيل من التساؤلات والاستفسارات بل والأفكار، حول مُستقبل البشرية وآلية التعامل مع هكذا مستجدات في السنوات أو العقود المُقبلة؟ والأهم من ذلك كيف لنا- في السلطنة- أن نتعامل مع دروس الجائحة؟ وما الذي ينبغي اتخاذه من إجراءات لتفادي الوقوع في ذات المأزق- لا قدَّر الله؟!

في المقام الأول يأتي الاهتمام بقطاع الرعاية الصحية، من حيث تخصيص الموارد اللازمة للارتقاء بهذا القطاع، سواء ما يتعلق بالإمكانات المادية من أجهزة ومعدات ومستشفيات مُجهزة على أعلى مستوى، أو ما يرتبط بتدريب وتأهيل الكوادر الوطنية العاملة، إضافة إلى تعزيز الوعي المجتمعي بأهمية المُمارسات الصحية السليمة والبُعد عن العادات الخاطئة التي تتسبب في الإصابة بالأمراض على اختلافها. وهنا لابُد من كلمة صادقة تجاه ما تبذله اللجنة العُليا المُكلفة ببحث آلية التعامل مع التطورات الناتجة عن انتشار فيروس كورونا، فضلاً عن الدور المحوري والفعَّال من قبل وزارة الصحة، فتكاتف الجهود بين اللجنة والوزارة ساهم فيما تحقق من إدارة حكيمة للأزمة، ومن ثمَّ تقليص مُعدلات الإصابة والوفاة بمرض كوفيد-19، وما يُؤكد ذلك أنَّ النماذج التنبؤية العددية لمنحنى الإصابات والوفيات كانت تتوقع أرقامًا أعلى بكثير ما ووصلنا إليه الآن، ولله الحمد، وذلك بفضل ما اتُخذ من إجراءات وقرارات بجانب نمو الوعي وحس المسؤولية لدى كل فردٍ في المجتمع. وتلك نقطة ينبغي أن نبني عليها ونستفيد منها، من خلال مُضاعفة جهود التوعية الصحية عبر الصحف ووسائل الإعلام، إلى جانب زيادة إسهام القطاع الخاص في تنمية القطاع الصحي، سواء بمشاريع المسؤولية الاجتماعية والتعاون المُثمر مع وزارة الصحة لرفد المُؤسسات الصحية الحكومية بما تحتاجه من أجهزة ومعدات وغيره، أو عبر مشاريع الشراكة والاستثمار من خلال التوسع في افتتاح مستشفيات خاصة تُقدم خدمات الرعاية الصحية بشتى أنواعها. ويجب أن تتوازى هذه الجهود مع تعميم التأمين الشامل على كل مُواطن ومُقيم، بما يُحقق نمو وتطور قطاع التأمين وفي الوقت نفسه يخفف العبء عن كاهل الحكومة ويزيد من إيرادات الدولة.

أزمة كورونا فرضت علينا كذلك تحولات إيجابية لم تكن لتتحقق بدونها، ففي ظل التحديات التي عرقلت حركة التجارة العالمية، لجأت حكومتنا الرشيدة للبحث عن البدائل الفعَّالة، مثل خطوط الاستيراد المُباشر للسلع والبضائع، لاسيما الغذائية منها وذات الصلة بالقطاع الصحي، إلى جانب زيادة الاعتماد على الموانئ المحلية والتي تحظى ببنية أساسية متقدمة ومتطورة. وتلك المُعالجة للأزمة تفرض علينا أمرين؛ الأول: ضرورة مُواصلة جهود تحقيق الأمن الغذائي من خلال التوسع في المشاريع الزراعية في المناطق الخصبة بالسلطنة، والتوجه بقوة نحو مشاريع "البيوت المحمية" لمُواجهة تحديات الطقس، علاوة على زيادة مشاريع الثروة السمكية والحيوانية، بما يضمن توفير الغذاء اللازم وتصدير ما يفيض عن احتياجاتنا.

درس آخر تعلمناه من أزمة كورونا، التي لم تنته بعد، وهو ضرورة الإسراع في أتمتة النُّظم التعليمية، وقد نجحنا هذا العام في تطبيق "التعليم المُدمج"، بما يكفل توفير الحماية الصحية لأبنائنا الطلبة وكذلك جميع العاملين في الحقل التدريسي من مخاطر الإصابة بالعدوى، وفي الوقت عينه ضمان عدم حرمان الطلاب من حقهم في التعليم. ونأمل خلال العام الدراسي المُقبل والأعوام التي تليه، مُواصلة تطوير التعليم الإلكتروني، وأخص في ذلك مؤسسات التعليم العالي، بما يتيح أمام الشباب العمل والدراسة في آن واحد، كما يحدث في الغرب، فالعمل لا يتعارض مع الدراسة الجامعية. أما فيما يتعلق بالتعليم الأساسي، فينبغي الحفاظ على الأدوات التي تُتيح للطالب متابعة الدروس في حالة الغياب لظروف قاهرة وطارئة، علاوة على إبقاء ولي الأمر على اطلاع دائم بأداء أبنائه.

وكل ذلك يقودنا مُباشرة إلى مسألة استخدام التكنولوجيا، وتوظيف التقنيات الحديثة في كل قطاعات الحياة، وليس فقط التعليم أو الخدمات الإلكترونية، فمن إيجابيات الجائحة أنها سرعت وتيرة التحول نحو التطبيقات الرقمية التي توفر للمستخدم معظم ما يحتاجه من خدمات، وهو ما يُعزز نمو قطاع الخدمات في السلطنة، ويوفر عشرات الآلاف من فرص العمل لشبابنا. فاستخدام التكنولوجيا لم يعد حكراً على قطاعات بعينها، بل إنَّ تشغيل وإطفاء الأنوار في الشوارع يُمكن أن يتم من خلال التكنولوجيا، فضلاً عن المهام الكبرى الأخرى. وإلى جانب ما سبق، لا شك أنَّ الإسراع في الخدمات الحكومية الرقمية بات ضرورة ملحة للغاية، خاصة مع نجاح تجربة العمل عن بُعد، وقدرة الموظف على إنهاء المُعاملات من منزله بأسرع وقت مُمكن.

وختامًا.. إنَّ الدروس والعِبر التي يمكن أن نتعلمها من أزمة فيروس كورونا عديدة، لكن التحلي بالإرادة للاستفادة منها يجب أن يكون شغلنا الشاغل، فالأولى أن نُبادر وننطلق نحو آفاق أوسع، لاسيما مع الانطلاقة الوشيكة للرؤية المستقبلية الطموحة "عُمان 2040"، فلنُشمّر عن سواعد الجد، وأن نتكاتف سويًا، حكومة ومواطنين، مؤسسات دولة وشركات قطاع خاص، من أجل أن تكون "عُمان في مصاف الدول المتقدمة".