أموت أو لا أموت!

عبدالله الفارسي

أخذ يتأمل شهادة البكالوريوس المُعلقة في صدر الغرفة، أخذ يمسح زجاجها بقطعة قماش صغيرة وضعها خصيصاً لهذا الغرض، طوال ثلاث سنوات واظب كل صباح على تلميع واجهة شهادته، بكالوريوس في تقنية المعلومات، بتقدير جيد جدًا. لقد أكملتْ اليوم 5 سنوات كاملة فوق هذا الجدار، فجأة صرخ عليها: "ألم تملي من الوقوف، متى ستسقطين وتتكسرين وتموتين"، وبصق عليها، ثم ضحك ضحكته الهستيرية المُعتادة، فدخلت عليه أمه بسرعة فهي تفزع كلما سمعت هذه الضحكة الهستيرية المُرعبة، فقالت: تعوّذ من إبليس يا فيصل، سيفرجها ربك.

نظر إلى صورته مع صديقيه الحميمين مُتكئة على طاولة القراءة، هذه الطاولة التي انحنى عليها سنوات ليحصل على تلك الورقة الرخيصة المُعلقة في صدر الغرفة، 4 سنوات من الألم مضافاً عليها 5 سنوات من الانتظار والاحتراق مقابل ورقة لا قيمة لها. تأمل صورته التي تجمعه بصديقيه الحميمين مازن وإبراهيم صديقي الطفولة والذين التحقا بجهاز الشرطة بعد الثانوية مُباشرة، بينما قرَّر هو المُواصلة، لقد كان طموحاً وحالماً ومثابراً. لقد اختصرا الطريق كثيرا. وها هما الآن كل منهما يملك بيتاً وطفلاً وسيارة وفراشاً دافئاً.

خرج من غرفته قاصدا الخروج من البيت، وقالت له أمه: الخير جاي يا ولدي لا تيأس. قبَّلها فوق رأسها وهمس لها: نعم الخير جاي يا أمي، سأذهب لانتظره في الشارع!!

منذ خمس سنوات وهو يركض إلى العاصمة، يقرع مختلف الأبواب الزجاجية والخشبية، وجلس طويلا ينتظر فوق أرائك الاستقبال الجلدية الفارهة، فكل موظفي دائرة العمل يعرفونه أكثر من مُديرهم ومسؤولهم. نام في المساجد، وطلب صدقات طعام من أصحاب المطاعم، ووقف الساعات ينتظر في الشوارع كعمود إنارة صدئ منطفئ منسي منذ سنوات. لذلك وصل إلى قرار خطير ومُثير "كما عشت بطريقة مثيرة لابد أن تكون نهايتي بطريقة مثيرة، يجب أن أنهي حياتي بمغامرة فريدة".

كان فيصل يملك قارباً صغيرًا كان يستخدمه لكسب رزقه في مواسم الصيد ووفرته، ولكن غالباً كانت تخرج شباكه فارغة كفراغ هذا العالم. لقد انعدمت مواسم الصيد وضاعت بركة البحر وشحت الأسماك وخاصم الخير النَّاس. وقرر فيصل أن يكون هذا القارب هو قاربه إلى الموت ووسيلته إلى الانتهاء وطريقه إلى الفناء والوداع. لم يخبر أحدًا بخطته ولم يطلع صديقاً على نواياه فجهز خطته دون أن يُلاحظ أحد من أسرته شيئاً من سلوكه. كان يضاحكهم وقلبه يغلي، ويمازحهم وروحه تحترق، ويجالسهم وفؤاده ينتفض. التفكير بالموت ليس أمراً بسيطاً، والذهاب إلى الموت ليس قرارًا عادياً بالمرة.

نهض قبيل الشروق، صلى الفجر، سمع أمه تتلو وتتمتم أذكار الصباح كعادتها، استرق السمع لدعائها "اللهم وفق فيصل وارزقه عملاً وبيتاً وزوجة"، ودخل عليها قبل أن تنهي أذكارها حضنها من خلفها، قبل رأسها، شم رائحتها شمة طويلة كادت تنقطع فيها أنفاسه. ودخل غرفته وحمل أغراضه المُخبأة منذ أيام، وركب دراجته البخارية القديمة الصدئة بعد أن وضع في صندوقها البلاستيكي الخلفي كل احتياجاته دون أن ينسى بنزين القارب، فقد اشترى منه ما يكفيه ليأخذه إلى منتصف المُحيط ويقذف به في غياهب البحر.

انطلق إلى الشاطئ؛ حيث قاربه الصغير ينتظره بصمت ووجل، ثم أوقف دراجته قريباً من القارب وأنزل كيسا يحوي كل أغراضه، ثبت صندوق البنزين في مكانه وأوصله بمكينة القارب. وأبعد دراجته بعيدا عن الشاطئ وتركها كيفما اتفق دون اكتراث، فهو على يقين بأنه لن يلتقي بها مرة أخرى ولن يركبها ثانية لكنه منحها نظرة وداع أخيرة كرفيقة عُمر تستحق الوداع. وأنزل قاربه الخفيف إلى البحر بكل ثقة وهدوء، ثم قفز على ظهر القارب بكل خفة وجمال، وشغل ماكينته، وأبحر بسكينة وخشوع، وانطلق مباشرة إلى أعماق المُحيط الواسع كنسمة هواء خفيفة باردة.

أنطلق قاصدًا نقطة بعيدة وأعماقاً مظلمة وأمواجاً عاتية وتيارات ساحقة.. اختفى فيصل وقاربه عن الأنظار، وذاب بين الضباب والسراب. وفي المساء وبعد العشاء سألت الأم بناتها: ألم يصل فيصل؟! قالت البنت الكبرى: لا يا أمي أنا قلقة عليه فمنذ أيام وهو يتصرف بغرابة!! قال البنت الأخرى: هذه أوَّل مرة يخرج فيها فيصل من الفجر ولا يعود عند الغداء منذ عرف البحر وصادقه.

ترك فيصل الفطور والغداء، والعشاء، وترك الفطور الثاني والغداء والعشاء ولم يأتِ في الفطور الثالث والغداء والعشاء، بعد تسعة أيام أخذ الناس في القرية يتداولون خبراً يقول إن إحدى سفن الصيد الكبيرة سحبت قارباً صغيراً من وسط المحيط بدون صياد بدون ربان وبدون إنسان، ولم يجدوا في القارب سوى هاتفٍ صغيرٍ وعلبة بسكوت فارغة وقميصٍ يحمل رائحة شاب جميل قرر الرحيل من الحياة مبكرًا جداً، وسريعًا جدًا.