3 مسارات نحو اقتصاد مزدهر

حاتم الطائي

 

◄ مواصلة التقدم تستدعي اتخاذ خطوات شجاعة محسوبة تواكب المستجدات

◄ "عُمان 2040" و"الخمسية العاشرة" و"التوازن المالي".. 3 مسارات مستقبلية واعدة

◄ نحتاج لمزيد من الحوافز الاستثمارية ومراجعة سياسات الإقراض وتمكين القطاع الخاص

 

2020 عام الأزمات بلا مُنازع، مرَّ علينا وكأنَّه دهر، فما واجهناه من تحدياتٍ وصعابٍ وصدماتٍ لم نعهدها من قبل، وضعتنا أمام حقيقة لا التباس فيها ولا تفسير لها سوى أننا لا يُمكننا أن نتقدَّم ونُواصل المسير دون خطوات شجاعة وجريئة محسوبة بحسابات العقل والمنطق، لكنها في الوقت عينه تلقي بنظرها إلى مُستقبل يجب أن نسعى ليكون أكثر ازدهارًا.

وتلك الحقيقة التي تكشفت لنا خلال الأزمات العنيفة التي هزَّت العالم في عامنا هذا، وألقت بتداعياتٍ سلبيةٍ على واقعنا المَعِيش، تتوازى معها حقيقة أخرى، وهي أنَّ جوهر التَّقدم الإنساني يتمثل في الإدارة الاقتصادية، فكل التحديات والمُعضلات التي نُواجهها تدور في فلك الاقتصاد، وتسبح في فضائه إلى ما لا نهاية، لكن برؤية استشرافية ثاقبة نستطيع أن نُعيد توجيه بوصلتنا، وأن نُحرِّك دفة سفينتنا نحو الاتجاه الذي يقودنا إلى بر الأمان، ويُمكِّننا من تفادي الموج المُتلاطم من حولنا، بل والأهم أن نستغل الكنوز التي نملكها لكننا لم نُوظفها التوظيف الأمثل.

أقول ذلك، وعُماننا الحبيبة على بُعد أسابيع قليلة من بدء مرحلة -ما أسميه- "عُمان الجديدة"، المُرتكزة على فكر نهضوي مُتجدد يقوده حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم- حفظه الله ورعاه، عُمان التي تطمح لتبوؤ مكانتها بين الدول المُتقدمة، عُمان المُستقبل التي تنتظر إسهام كل مُواطن ومواطنة في بناء الازدهار الذي نصبوا له جميعًا. فمع اقتراب "ساعة الصفر" لتطبيق الرُّؤية المستقبلية "عمان 2040"، يعكف مجلس عُمان، بشقيه الدولة والشورى، على إنجاز أوَّل ميزانية عامة للدولة في الطريق إلى "عُمان 2040"، والأولى في الخطة الخمسية العاشرة؛ بل إنِّها أيضًا أوَّل ميزانية في خطة التوازن المالي (2021- 2024)، ومن ثمَّ يقع على عاتق المجلس مسؤولية الانتهاء من هذه الميزانية بما يضمن انطلاقة قوية تهيئ المجال نحو تحقيق الأهداف المرجوة على المسارات الثلاثة: "عُمان 2040" و"الخمسية العاشرة" و"التوازن المالي، وهذا لن يتأتى دون تضافر جهود مختلف الأطراف، من مؤسسات الدولة، والقطاع الخاص، والقطاع المدني، والمواطنين في كل شبرٍ على تراب هذا الوطن، فنجاح المضي قدمًا على هذه المسارات مرهون بثلاثية "الحكومة والقطاع الخاص والمُواطن"، ومتى ما تحققت المعادلة كاملة، وُجد الإنجاز، وقُطفت الثمار.

إذن ما الأولويات التي نحتاجها في هذه المسارات الثلاثة؟!

نحتاج أولاً إلى التَّقيُد التام بتطبيق أهداف وتطلعات كل مسار، والعمل على مواءمة المُعطيات مع بعضها البعض وصولاً إلى نتائج مُتناغمة ومُتوافقة فيما بينها، دون أدنى تعارض. إضافة إلى الالتزام بنهج "التفكير خارج الصندوق"؛ أي التفكير غير التقليدي، فكل فكرة طبقناها في الماضي ولم تُحقق المأمول منها، يجب أن نتجاوزها ولا نُعيد حتى التفكير فيها، عوضاً عن عدم تطبيقها بأي حالٍ. علاوة على المحافظة على روح التجديد والمُراجعة المستمرة للأفكار والخُطط، وهذا يستدعي- بلا شك- التَّحلي بالمرونة عند تحقيق الأهداف، وعدم الجمود في خندق "التطبيق وحسب"، بل يجب اعتماد نهج "التطوير المُستمر" كأسلوب عمل، فربما تحدث مستجدات تفرض علينا تغيير الخُطة، وتعديل الأدوار والمهام، مع الإبقاء على سُّمو الهدف المُبتغى.

وفي ظل الأزمات المُتلاحقة، والصدمات غير المُتوقعة، فعلينا التخلي عن "التفكير المُتردد" المستند إلى مخاوف ربما تكون واهية، وفي المُقابل علينا أن ننتهج مبدأ "الإرادة القوية" التي تفضي إلى "الإدارة الحاسمة"، فالأيادي المُرتعشة لا تصنع الأمجاد، ونحن أمة مجد منذ فجر التَّاريخ، وقادتنا مبادرون بالفطرة، وشعبنا صاحب تفكير عملي يقوم على تحقيق المصلحة العامة، فأينما وُجدت هذه المصلحة اتُخذ القرار.

ولتحقيق مصالحنا العامة وفق المسارات الثلاثة آنفة الذكر، لا مناص من تطبيق أربع استراتيجيات واضحة المعالم ومُتحدة الأهداف، تُسهم في بناء منظومة تكاملية وترسيخ أسس وقواعد اقتصاد نامٍ ومُستدام، قادر على تلقي الصدمات، وتجاوز العقبات.

الاستراتيجية الأولى: طرح المزيد من الحوافز الاستثمارية؛ فرغم ما تُقدمه الحكومة الرشيدة والمؤسسات والهيئات المعنية بتنمية الاقتصاد وزيادة الاستثمارات، إلا أنَّ المردود والعائد الاستثماري ما زال دون مستوى الطموحات، فوطننا يملك موقعاً استراتيجياً وحيوياً يُمكن أن يشكل نقطة تلاقٍ للكثير من الأهداف الاستثمارية حول العالم، وخاصة فيما يتعلق بالربط بين أكبر قارتين من حيث عدد السكان؛ آسيا وأفريقيا، فضلاً عن جودة المناخ الاستثماري بفضل الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي، بجانب توافر الأيدي العاملة الوطنية، ومجتمع فتي أكثر من نصفه ينتمي لفئة الشباب. وعندما نتحدث عن حوافز استثمارية، لا ينبغي أن يتوقف الأمر عند مسألة تيسير الإجراءات وتبسيطها، وهذا جانب بالغ الأهمية، لكن في الوقت نفسه نشير بوضوح إلى إعادة النَّظر في سياسات الإقراض وآلية صناعة القرار الاقتصادي والاستثماري، وديمومة هذه القرارات بألّا تكون وليدة اللحظة أو رهنية المرحلة، وتلك نقاط نتطرق لها تفصيلاً في الاستراتيجيات الأخرى.

الاستراتيجية الثانية: التزام نهج داعم للقطاع الخاص؛ إذ إنَّ كل المُعطيات تبرهن على الدور المحوري لهذا القطاع في تحقيق التطلعات الاقتصادية، فوجود قطاع خاص قوي ومُمَكَّن، من شأنه أن يدعم الازدهار الاقتصادي، فنجاح رؤية "عمان 2040" يرتكز بصورة كبيرة على القطاع الخاص القوي القادر على توظيف الآلاف من المُواطنين، ودعم استمرار دوران عجلة الاقتصاد، وزيادة الإنتاج ومن ثمَّ نمو القوة الشرائية للفرد. وهذا يستدعي التوسع في نهج الشراكة بين القطاعين العام والخاص، والتوقف عن إنشاء المزيد من الشركات الحكومية، التي قد تتسبب في منافسة غير عادلة مع شركات القطاع الخاص. إضافة إلى تنشيط خطط التخصيص، وطرح العديد من الشركات المملوكة للدولة في سوق مسقط للأوراق المالية، لإشراك المواطن والمستثمر (محلي أو أجنبي) في ملكية المشاريع، والاستفادة من العوائد المتحققة. كما إن من عوامل نمو القطاع الخاص وازدهاره، كسر الاحتكار وتوفير البيئة الصحية العادلة لنمو المؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي تمثل السواد الأعظم من شركات القطاع الخاص، والآمال كبيرة في أن يسهم مركز حماية المنافسة ومنع الاحتكار في إنهاء احتكار وهيمنة شركات كبرى على منتجات بعينها.

الاستراتيجية الثالثة: إعادة النظر في السياسات المصرفية، فالتنمية الاقتصادية المنشودة لن تحقق دون إجراءات جذرية، فتعقُد الإجراءات البنكية وتزايد الشروط الضامنة، وارتفاع سعر الفائدة على القروض المرتبطة بالمشاريع التنموية (صناعية وزراعية وتجارية) كلها إجراءات يجب تغييرها تغييرا جذريا، بحيث يكون الإقراض مُتاحًا لكل مشروع جاد قائم على دراسات جدوى اقتصادية رصينة ومُحكمة، خاصة وأنَّ القروض الشخصية الاستهلاكية- في المقابل- تحظى بتسهيلات أكثر، وتمثل جزءًا كبيرا للغاية من إجمالي القروض الممنوحة. أضف إلى ذلك أهمية الحد من سقف القروض، وزيادة سقوف التمويل التنموي، وضرورة رفع رأس مال بنك التنمية العماني ليتوسع في دعم القطاعات الاقتصادية.

الاستراتيجية الرابعة: بناء وعي مُجتمعي تجاه القضايا الاقتصادية، فالمواطن الواعي بتحديات الاقتصاد وما يُواجهه من صعاب، سيكون شريكًا فاعلًا في عملية التنمية الشاملة، ليس فقط فيما يتعلق بمسألة دعمه لما يصدر من قرارات وما يُتخذ من إجراءات، لكن أيضًا الحرص على أداء عمله باتقانٍ وتفانٍ، وعدم التقاعس عن الإسهام في مسيرة التنمية. والوعي رديف الإعلام، ومن هنا فإنَّ مهمتنا- كإعلاميين ووسائل إعلام- أن نُسلط أضواءً كاشفة على ما قد يلتبس أو يصعب على المواطن فهمه، في مساراتنا الاقتصادية والتنموية.

وختامًا.. إنَّ إيجاد البيئة الصحية اللازمة لنمو الاقتصاد وازدهاره، يحتاج إلى رؤية استشرافية مُتكاملة، وهذه مُتحققة في رؤية "عمان 2040" أو ما أًسميه "الطموح العماني"، إلى جانب بيئة استثمارية مُحفزة وداعمة للنمو، والسلطنة ماضية في هذا السبيل قدمًا، وأخيرًا بناء قطاع خاص قوي ومُمكَّن.. ونحن قادرون على ذلك.