أمريكا وزعزعة الاستقرار العالمي

 

حاتم الطائي

 

الدور الأمريكي المُدمِّر للسلم العالمي يرتكز على إشعال الصراعات

6 عوامل وراء إخفاق الإدارات الأمريكية في إحلال السلام والاستقرار بالعالم

أمريكا تعيش حالة من التخبط السياسي وصراعات السلطة

 

لا تتوقف الإدارات الأمريكية المُتعاقبة عن زعزعة الاستقرار العالمي؛ بل تُكرِّسه بمُمارسات سيئة تنال من بنية المنظومة الدولية، في ترسيخ تام للنهج الأُحادي القطب الذي يُهيمن على القرارات الدولية عبر سياسات مزدوجة المعايير ونشر الأفكار الهدّامة تحت مُسمى "الفوضى الخلّاقة"، ولا أدل على ذلك من سوء استخدام حق النقض "الفيتو" على قرارات مجلس الأمن، لا سيما تلك المتعلقة بدولة فلسطين وإحلال السلام في الشرق الأوسط، والتي كان آخرها استخدام الفيتو الأمريكي ضد مشروع قرار يمنح دولة فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المُتحدة.

ولذا نقول يُخطئ من يظُن أنَّ "شريعة الغاب" سقطت مع بناء الحضارة المدنية الحديثة، ويُخطئ من يظُن أن العالم صار أفضل وفي أحسن حال مع تطور الفكر الإنساني وظهور الكيانات المؤسسية العالمية؛ إذ إن ما جرى لم يتعدَ حدود تجميل الصورة ووضع بعض الرتوش على القبح والجنون والتدمير الذي ساد الأمم الغابرة، عندما كانت تشن القبائل البدائية الحروب والصراعات بحثًا عن مصادر العيش، كالماء والمرعى، أو لفرض هيمنتها؛ ففي عصرنا اليوم ما تزال "شريعة الغاب" هي المُسيطرة والحاكمة في الكثير من القضايا، ولننظر إلى الدور الأمريكي وانحياز واشنطن السافر لأعمال القتل والإبادة الجماعية ودعمها لهدم الأمم وتفتيت الشعوب.

هذا الدور الأمريكي المُدمِّر للسلم العالمي يرتكز على استراتيجية أمريكية خبيثة تستهدف أولًا وأخيرًا تحقيق المصالح الأمريكية على حساب الشعوب، وبدماء الأبرياء، ولا تضع- هذه الاستراتيجية - في عين الاعتبار مُطلقًا حقوق الشعوب الأخرى في العيش الكريم والآمن، ولا تنتبه إلى حق كل أمة في تقرير مصيرها بعيدًا عن أي هيمنة خارجية أو وصاية أجنبية، كما إن هذه الاستراتيجية الخبيثة لا تُؤمن بالعدالة الدولية؛ بل ترى فيها وسيلة لتحقيق مآربها، في ازدواجية معايير فجّة وسلوكيات مُنافقة تشمئز منها الضمائر السويّة وتأنفها النفوس الصالحة، الساعية بكل صدق وحق إلى السلام والاستقرار ونشر التنمية في العالم أجمع.

ولذلك نستطيع القول إنَّ الإدارات الأمريكية المُتعاقبة منذ نشأة الولايات المتحدة، أخفقت بشدة في تحقيق السلام العالمي، وعلى النقيض تسببت في العديد من الكوارث والحروب والمآسي الإنسانية التي سيظل التاريخ يذكرها باعتبارها نقاط سوداء على جبين الحضارة الإنسانية المُعاصرة التي تدّعي التحضُّر والمدنية الحديثة!!

ونرى أنَّ هذا الإخفاق والفشل ناتج عن عدة عوامل مُجتمعة، كرّستها السياسات الأمريكية على مدار عقود؛ إذ إنَّ الولايات المتحدة دولة تأسست على أنقاض حرب أهلية دموية ونجحت في فرض نفوذها عقب حربين عالميتين (خلّفتا ما يزيد عن 100 مليون قتيل وجريح) وأكلتا الأخضر واليابس في العالم. وإذا ما سعينا لتحليل دوافع الدور الأمريكي المُزعزع للاستقرار في العالم نكتشف ما يلي:

أولًا: انعدام الرؤية السياسية بعيدة المدى القائمة على الحفاظ على المصالح، وفي المقابل تحقيق أهداف اقتصادية بدماء الشعوب؛ حيث لم تمتلك أي إدارة أمريكية رؤية واضحة المعالم لمُستقبل الصراعات، من خلال صياغة حلول فاعلة وطرح مقترحات تُسهم في إنهاء النزاعات وحلها بالطرق الدبلوماسية، بعيدًا عن الحروب والمواجهات المُسلّحة. بينما ترتكز السياسات الأمريكية الخارجية على إدارة الصراعات، دون استهداف الحل، وهذا يعني إطالة أمدها وإنعاش صناعات الأسلحة الأمريكية التي تحقق سنويًا مبيعات تتخطى 600 مليار دولار، وتمنح الاقتصاد الأمريكي زخمًا يُساعده على النمو. 

ثانيًا: زرع كيانات وظيفية في بؤر الصراع المتوترة حول العالم، وهذه استراتيجية أمريكية بامتياز، تتجاوز سياسة "فرق تسُد"، لتكون بمثابة سكب للزيت على النَّار، ففي عالمنا العربي عززت الولايات المتحدة من دعمها للكيان الصهيوني ليتحول إلى نقطة انطلاق نحو تخريب المنطقة وإبقاء جذوة الصراع مشتعلة، ومن ثم تتحول "إسرائيل" فعليًا إلى قاعدة عسكرية كبيرة تنطلق منها كل أعمال التخريب الاستخباراتي والحقيقي على الأرض. كذلك الوضع في بحر الصين الجنوبي؛ حيث تفاقم واشنطن التوترات بدعمها لجزيرة تايوان، في تحدٍ سافر لـ"سياسة الصين الواحدة" التي تحظى بدعم دبلوماسي وسياسي عالمي واسع النطاق. وإذا ما انتقلنا إلى القارة الأوروبية نجد الدور الهدّام للولايات المتحدة حاليًا في شرق أوروبا؛ حيث تقدم الدعم العسكري والاستخباراتي والاقتصادي والسياسي لأوكرانيا في مُواجهة روسيا؛ الأمر الذي يُهدد بمواجهة مباشرة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي "ناتو". ولا يختلف الوضع كثيرًا في آسيا الوسطى؛ حيث احتلت أمريكا أفغانستان وأحدثت بها دمارًا هائلًا أثر على الأمن والاستقرار في تلك البقعة من العالم، وأضر كثيرًا بالسلام العالمي.

ثالثًا: تهميش الدور الأوروبي وجعل أوروبا تابعًا لا شريكًا في قيادة العالم، وبلغ هذا التهميش ذروته بتشجيع بريطانيا على الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، ومن ثم إضعاف الدول الأوروبية وجعلها رهنية القرار الأمريكي، حتى إنَّ دولة مثل ألمانيا المعروفة بقوتها الدبلوماسية، تحولت إلى تابعٍ للولايات المتحدة في مُعظم السياسات، وغاب التوازن الدولي بعد ضعف الكفة الأوربية لصالح الكفة الأمريكية. وقد تسبب هذا التهميش الأوروبي المُتعمّد في استفراد الولايات المتحدة بالقرارات الدولية والتي انتهت في أغلبها بمزيد من الاضطرابات العالمية.

رابعًا: استنزاف ثروات الدول النامية عبر وسائل عدة، مثل إسقاط الأنظمة واحتلال الدول، وسرقة الموارد والسماح للفاسدين بالبقاء في الحكم، وإذكاء الصراعات على الموارد لا سيما في المناطق ذات الموارد الشحيحة أو المتناقصة. ولنا في العراق مثال؛ حيث احتلت أمريكا العراق وأعدمت رئيسه وفككت قواته المسلحة، ونهبت موارده من نفط وغاز وغيرهما، حتى إنها أوجدت منظمات إرهابية مثل "داعش" وأخواتها.

خامسًا: تعميق أزمات الديون وتكبيل الدول بالقروض ذات الفائدة المرتفعة لضمان عدم تقدمها، وهذا يتضح من خلال استخدام مؤسسات التمويل الدولية لفرض برامج وخطط اقتصادية ومالية بعينها تستهدف خلخلة النظم الاقتصادية القائمة تحت مزاعم "الإصلاح الاقتصادي"، وإلزام الدول بتنفيذ هذه الخطط دون الوضع في الاعتبار التباينات بين نظام اقتصادي وآخر. علاوة على أنَّ هذه الدولة تغرق في دوامة القروض بهدف إجبارها على بيع أصول الدولة بأثمان بخسة وفي صفقات مشبوهة.

سادسًا: تعميق اختلال الموازين العالمية بممارسة ازدواجية المعايير تجاه العديد من القضايا، والتدخل المباشر وغير المباشر لتغيير الأنظمة؛ سواءً بالقوة المسلحة أو عبر تعميق الانقسامات السياسية في الدول، وفق نظرية "الفوضى الخلّاقة" التي اعترفت بها وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق كوندليزا رايس، وأصبحت نهجًا أمريكيًا واضحًا.

ويبقى القول.. إن السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط والعالم أثبتت فشلها الذريع على مر العقود، وبرهنت على أنها لا تستهدف سوى إدارة الصراعات دون العمل على إنهائها ووضع الحلول الناجعة لها؛ الأمر الذي يمنح الولايات المتحدة نفوذًا عالميًا يُعزز من قوتها الاقتصادية، استنادًا على واحد من أكبر مصادر الدخل القومي الأمريكي، وهو صناعة الأسلحة.. غير أنَّ التاريخ يؤكد لنا أن الأمم لا تبقى على حالها، وأن لكل حضارة مسار هابط يقودها نحو التفكك والانحلال، وهذا المسار قد بدأ في الولايات المتحدة، وتعاظم كثيرًا خلال العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة؛ حيث كشف العدوان عن الوجه القبيح لأمريكا ودورها المباشر في حرب الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، وتزامن معه التخبط السياسي وصراعات السلطة، خاصةً مع اقتراب موعد انتخابات الرئاسة الأمريكية، بين رئيس تحوم حوله الشكوك إزاء حالته الصحية، ورئيس سابق آخر مُهدد بالسجن في أي لحظة.. لكن في الوقت نفسه علينا أن نتمسك بالأمل في مستقبل أكثر استقرارًا لمنطقتنا والعالم، بعيدًا عن الدور الأمريكي التخريبي.