الرفيق قبل الطريق

 

عبدالله الفارسي

هذه القصة من أسراري التي لا يعرفها سوى ثلاثة أشخاص فقط، لقد خبأتها لأنها غريبة ومضحكة، لكن نزولاً عند رغبة بعض المتابعين لمقالاتي والذين يفضلون هذا النوع من قصصي البوليودية الهندية الجميلة اضطررت لسردها عليكم، فلا تفوتوا متعة قراءتها.

في العام 2002، كان يسكن بجواري أحد الأردنيين، كان أستاذا محاضرا في الكلية لا أعرف كيف حصل على الدكتوراه؛ فلا شكله شكل دكتور ولا مضمونه مضمون أستاذ جامعي!! فقال إنه حصل على الشهادة من الفلبين والأردن طبعاً لا تعترف بأيِّ شهادة علمية صادرة من كثير من الدول الآسيوية باستثناء اليابان وكوريا الجنوبية، ثم قال ضاحكاً ساخراً: وأنتم هنا تعترفون بأي شهادة علمية حتى لو كانت صادرة من جمهوريات الموز والأناناس!!

كانت علاقتنا طيبة، وكان يعرف أنني كنت قد سافرت الأردن برًا أكثر من مرة، فبدأ يتقرب مني كثيرا وقبل موعد نهاية العام الدراسي، أخذ يستضيفني في بيته ويقدم لي الحلويات والشاي، وزاد معدل ابتساماته لي وكبر حجمها بشكل ملفت، طبعاً هذا ليس لأجل عيوني الجميلة أو أخلاقي العظيمة لا، أبداً، وإنما كان الرجل يتقرب مني حتى يقنعني بمرافقته السفر براً بسيارته، فالطريق إلى الأردن طويل جداً ولا يُمكن احتماله بدون رفيق، فعزمني ذات نهار على منسف أردني عجيب، وحين وضع الصينية أمامي سال لعابي بغزارة، وكان يُراقبني وقبل أن أمد يدي مسكها وقال: قبل أن تأكل وبحق هذه اللقمة قل موافق فقلت له: على ماذا؟ قال: فقط قل موافق، كان لعابي قد وصل إلى ذقني فاضطررت أن أقول موافق. قال سترافقني إلى الأردن براً في سيارتي وكل مصروفات الطريق على حسابي. فلم أستطع أن أرفض أو أنكث موافقتي لأنني في تلك اللحظة كنت قد غمست يدي وغطست رأسي في صحن المنسف والتهمته التهاماً!!

خلاص إذن، المنسف مقابل السفر براً إلى الأردن بمرافقة هذا الرجل الذي لا أعرفه جيداً، سبحان الله صدق من قال (السفر يسفر لك عن حقيقة النَّاس وطبيعتهم)، وأبدع من قال (إذا أردت أن تعرف حقيقة إنسان فعليك باثنين: تعامل معه بالدرهم والدينار أو سافر معه سفراً طويلاً).

جاءت الإجازة الصيفية سريعاً، جهز الرجل سيارته الجديدة كلياً من نوع كامري، يبدو أنه كان يرغب في التفاخر بها في محيطه الاجتماعي ليعوض عقدة النقص الكبيرة التي كان يُعاني منها.

اتصلت بصديقي العزيز المرحوم نوفل طويسات وأخبرته بأنني قادم إلى الأردن براً برفقة أستاذ أردني لا أعرف طبيعته وأجهل نوع معدنه، انطلقنا ذات ضحى، هو تكفل بالقيادة من صور إلى مركز الغويفات الحدودي، لم نتوقف سوى لتعبئة البنزين وشرب الشاي فقط، ثم توليت أنا القيادة من مركز بطحاء السعودي، لم أستطع أن أتناول وجبة ثقيلة في محطة البطحاء خوفاً من أن يغلبني النوم لأنني كنت أنوي قطع أطول مسافة مُمكنة.

رفيقي نام مباشرة بعد خروجنا من البطحاء، وأخذ يشخر كخرتيت مريض، لم يضايقني شخيرة بل العكس، أضاف لي نوعاً من الإزعاج والتنبيه المتواصل ولكنني سحقته بصوت فيروز، كنت قد أحضرت معي أروع فيرزويات فيروز؛ فكان صوتها هو أنيسي ورفيقي، قطعنا مسافة طويلة تجاوزت الستمائة كيلومتر. ضربني الجوع ولوى بطني فقرقرعت مصاريني، فتوقفت عند أول استراحة. فقلت لرفيقي والذي لم يستيقظ أبداً: انهض أيها الخرتيت، سنأكل ذبحني الجوع. فتح عيناً واحدة كثعلب ماكر وأخذ يتمطط، وقال: لا أريد طعاماً أذهب أنت وكل، سانتظرك بالسيارة.

طبعاً الماكر لا يقصد بأنَّه لا يريد طعاما لأنه أيضاً جائع جدًا ولم يأكل شيئاً طوال 11 ساعة وإنما كان هدفه ألا يدفع لي مبلغ الطعام، لأنه تعهد بدفع مصاريف الطعام والشراب طوال الطريق حتى نصل إلى الأردن، تركته، ودخلت المطعم وتناولت وجبة لذيذة، وحبستها بكأس شاي أسود ثقيل، فوجدت صاحبي يأكل بطاطس وحلويات كان قد جلبها في حقيبة جوازات صغيرة، كان يأكل ويتقرمش بكل وقاحة، ولم يسألني ماذا أكلت وكم دفعت، فقلت هذه المرة سأتجاوز عنها، لكن في المحطة القادمة إذا لم يدفع لي سأقلب عليه الصفحة وأجعل ليلته سوداء كما يقول المصريون.. تحركت بعد أن دفع قيمة البنزين، وانطلقنا!

كان طوال الطريق يأكل الحلويات ويتقرمش بالبطاطس ولم يقدم لي قطعة حلوى أو شريحة بطاطس، فتأكدت بأنني قد تورطت معه. قطعت مسافة 700 كيلومتر وتعمدت التوقف في إحدى الاستراحات التابعة لمنطقة حفر الباطن. أوقفت السيارة أمام المطعم فقال لي: شو بدك، أنت أكلت قبل 5 ساعات بدك تاكل كمان، قلت له: بدي آكل وبدك تدفع عني، فقال: شو، أنا أبوك بصرف عليك!!

إذن الدكتور المُحترم كشف أوراقه وكشَّر عن أنيابه، حقيقة لم أحتمل حين نطق كلمة أبي بفمه العفن فلم أشعر بنفسي إلا وأنا أبصق في وجهه وكفي يلتصق بخده. فقفز كالملدوغ حاول أن يمسك رقبتي ففتحت الباب وخرجت، وقلت له أنزل أيها الجبان. نزلنا وتبادلنا اللكمات والرفسات، ثم التحمنا كجاموسين هائجين، ورغم ضخامته وطوله الذي يفوقني ويرجح كفته عليَّ، إلا أنَّ مفعول السمك والعوال والقاشع الذي كان أبي يطعمني بها طوال عشرين عاماً والذي كان يسرح ويمرح في دمي جعلني أسقطه أرضًا، ألتف النَّاس حولنا لمشاهدة هذا المنظر الغريب والمثير. ويبدو أنَّه أثناء سقوطه على الأرض عض شفته السفلى فتمزقت فنزف دماً غزيرًا، حين رأى الدم خرَّ وتخاذل وارتعش، فقررت استغلال هذه الفرصة فلكمته في صدغه الأيسر لكمة محترمة تألمت أصابعي بسببها حتى تورمت. فجأة وقفت سيارة شرطة بجانبنا وحملونا كخروفين تعيسين. أخذو رفيقي إلى مركز صحي لخياطة جرحه، وأخذوني أنا إلى الزنزانة مباشرة، بعد ساعتين أحضروا رفيقي إلى المركز. ثم اقتادونا معاً إلى مكتب الضابط المسؤول، لحسن حظي أنَّ الضابط كان رجلاً شهماً أصيلاً يعرف طريقة التعامل مع هذا النوع من النَّاس.

فسألني: أخبروني قصتكم؟ فأخبرته بأن هذا المخلوق طلب مني مرافقته من عُمان إلى الأردن بشرط أن يتحمل كل نفقات السفر من أكل وشرب ومبيت، لكنه حنث بعهده وأخلف بوعده. ودون أن يلتفت إلى رفيقي والذي كان يحاول التوجع أمامه لاكتساب تعاطف الضابط، سألني الضابط: كم تقدر نفقات الطريق من أكل وشرب من عُمان إلى الأردن، قلت له بين 700 إلى 1000 ريال سعودي. فقال الضابط فوراً مخاطباً رفيقي: هات 500 ريال بسرعة، بحلق عينيه وحاول أن يحتج فقال له الضابط: لك خياران إما السجن ثلاثة أيام أو تدفع الآن 500 ريال وتنصرف، ثم التفت نحوي، وقال وأنت أخرج حقيبتك، وأبحث لك عن باص إلى الأردن، الباصات لا تنقطع هنا. دفع رفيق دربي للضابط 500 ريال صاغراً ذليلاً وسلمها الضابط بدوره لي. وأنا خارج من مركز الشرطة انتبهت للوحة المركز (مركز شرطة حفر الباطن)، ذهبت خلفه وأخذت حقيبتي من سيارته التعيسة، والتفت إليه ساخرًا وقلت له: الخسيس خسيس ولو كان يحمل شهادة دكتوراه!!

لم ينبس ببنت شفة ولم يشعر بالإهانة وكأنه ترعرع عليها وتربى في أحضانها، وركب سيارته وانطلق سالكاً الطريق المتجه إلى عرعر، ووقفت عشر دقائق على الطريق الرئيسي المؤدي إلى الحدود الأردنية وإذا بشاحنة نقل كبيرة تحمل لوحة تركية تقف أمامي فرأيت السائق التركي يُؤشر لي ويدعوني  للركوب، فقفزت كأنني شمبانزي رشيق وركبت بجانبه، فقال لي: إلى الأردن. قلت له: نعم. كان شابًا تركياً جميلاً يحمل رائحة جبال الأناضول وعينيه زرقاء كأنها قطعة مسروقة من بحر مرمرة وشعره ناعمًا مسترسلا كأغصان الجنة.

كان يتحدث العربية بصعوبة لكنه يفهمها جيدا، فأخبرته بقصتي مع الدكتور الأردني، فضحك، ثم تمتم بالتركية، أظنه كان يقول: "أنتم العرب كائنات غريبة وسخيفة ومثيرة للشفقة).