العجوز الشابة

 

 

عبدالله الفارسي

 

إذا رغبت في التغريد خارج السرب، فافرد جناحيك للريح.

 

كُنت في المستشفى المرجعي قبل أيام، ذهبت للبحث عن مريض والسؤال عنه هناك، صدمني المنظر، أعداد هائلة من المرضى والمتمارضين والمتأوهين والمتكحكحين، أغلبهم من كبار السن.. فمصطلح كبار السن معنا يختلف عنه في العالم المتحضر فهو ليس من السبعين وما فوق، لا.. كبار السن معنا من سن الخمسين وربما أقل، فالمجتمعات المتخلفة لها أعمار شيخوخة تختلف عن أعمار الشيخوخة في المجتمعات المتحضرة، فنحن لنا مفاهيمنا ومقاييسنا وهم لهم مفاهيمهم ومقاييسهم.

صَدمني منظر عدد المرضى وحجمهم، أذهلني منظر أكياس الحبوب التي يحملها المرضى وكأنها أكياس خضار، هذا المنظر ذكَّرني بالعجوز الأسترالية إنجلي، العجوز الشابة ذات السبعين ربيعا!! حين سافرت إلى أستراليا في العام 2000 بعد أن أفرجت وزارة التربية والتعليم عني وأطلقت سراحي بعد معركة ضارية ومريرة دامت أكثر من 4 سنوات لأجل الحصول على رخصة تفريغ دراسية، فنحن متميزون في عرقلة أي مشروع دراسي وتحطيم أي طموح علمي.

لم أكن أعلم شيئا عن أستراليا، كنت أفتح الأطلس وأتأمل تلك القارة الشاسعة الساكنة أطراف الكرة الأرضية، وكأنها توشك أن تتزحلق عن كوكب الأرض.

كلُّ ما جمعته عنها هو بعض المعلومات البسيطة عن الجامعات ونظام دراستها، ولم أدقق في المعلومات المالية الخاصة برسوم الدراسة ومستوى المعيشة هناك، أو ربما لم أفهم فارق العملة ولم أستوعب معدل التكلفة هناك، فكان سفري مُستعجلا ومُباغتا عشوائيا وتخبُّطيا لأني كُنت متلهفا لركوب الطائرة والتحليق والهروب من هذا "الواقع المقرف" الذي يحيط بي من جهاتي الأربع.

طبعا أنا منذ كنت طالبا في الثانوية وأنا غير مقتنع بهذا الواقع المزري الذي يزداد ازدراءً وتدهورا، وكأننا قطار بخاري قديم يسير إلى الخلف!

كنت فعلا أفكر في الهروب والفرار، ولم أصدق أنني ركبت الطائرة المتجهة إلى المنامة ثم إلى سنغافورة ومنها إلى سيدني. 22 ساعة كاملة لم أشعر بها مُطلقا لأنني كنت مُحلقا في عالمي الخاص سابحا مع أوهامي المزركشة. حين حطت طائرتي في مطار سيدني أذهلني التنظيم العجيب للمطار، وشعرت فورا بأنني في كوكب آخر عالم مختلف لا علاقة له بهذا الكوكب الذي جئت منه، ولا صلة له بالمكان الذي هربت منه.

وعندما ركبت سيارة الأجرة دغدغتني نسمات سيدني الباردة وهواؤها الذي لم يسبق لأنفي وخياشيمي أن استنشقته منذ العام 1968 وهو عام مولدي، كان نسيما طريا طازجا لذيذا عذبا كأنه قادم من الجنة! يا الله كلما تذكرت تلك اللحظة أشعر بنسمات سيدني تدغدغ روحي وتمرح في شراييني. ليس هنا مصدر الدهشة، بل الذي أدهشني درجة الخرس هو أنني عشت مع سيدة أسترالية عجوز. كان لديها ثلاث غرف تؤجرها للطلاب الأجانب القادمين إلى سيدني للدراسة أو السياحة، كان عمرها في هذه السنة حين التقيتها 70 عاما، صدمت حين صرَّحت لي بأنها من مواليد العام 1930 كانت عجوزا، لكنها لم تكن عجوزا كعجائزنا المسكينات الطيبات المتضعضعات المنكسرات واللاتى ينتظرن ملك الموت بفارغ الصبر ليخلصهن من الأمراض المستوطنة في أجسادهن والتحليق بهن إلى عالم أفضل وأجمل وأرحم!

لا.. كانت السيدة إنجلي عجوز عجيبة جدا وخارقة؛ لذلك عكفت على مراقبتها ودراستها، كانت تستيقظ كل يوم فجرا وتمشي لمدة ساعة كاملة، كانت تقرأ 3 جرائد كاملة في فترة الصباح وكانت تلعن ساعي البريد إذا نسي إحضار جريدة واحدة أو تأخر عن موعده، كانت لا تأكل اللحم الأحمر سوى مرتين في الشهر، وكانت تتابع نشرة أخبار الثامنة كل مساء بانتظام والتزام، وكانت لا تنام قبل أن تقرأ صفحات من كتاب أو فصلا من رواية. وكانت الكتب والروايات مرصوصة في غرفة ملاصقة لغرفة نومها بانتظام وجمال، وكأنها أزهار نادرة منقوشة على جدران الغرفة وحيطانها. كانت ساعة نومها مُقدَّسة كانت تدخل غرفة نومها في التاسعة مساء وحين تغلق بابها لا تكترث ماذا يحدث خلفها في هذا الكون.

كانت تقول لي: "أهم شيء أن أنام، وعندما أنام لا يهمني بعد ذلك لو احترق العالم بأكمله أو ضربه نيزك سماوي". كانت تستيقظ كعصفورة صغيرة نشيطة بهيجة في الخامسة فجرا. عشت معها شهرا كاملا لم أرها انحرفت يوما واحدا عن جدولها الصارم هذا.

كانت تغسل ثيابنا وتكنس غرفنا الثلاثة، وكانت تطبخ لنا وجبتيْ العشاء والفطور، وكانت تهتم بحديقة بيتها الصغيرة وتعتني بقطتها الأليفة.

تفعل كل ذلك وهي في السبعين من عمرها ولم أسمع منها أنَّة واحدة أو شكوى من العمل أو تذمرا من أعمال البيت أو زفرة إحساس بالإرهاق والتعب. وأغرب ما قالته لي أنها لا تذكر أنها مرضت يوما ما في حياتها الطويلة المديدة!!

ليس هذا فحسب؛ فقد اكتشفت بعد أسبوع من إقامتي معها أنَّها تملك سيارة رياضية جميلة كانت تضعها في مرآب أرضي تحت البيت. وكانت تذهب للتسوق مرة واحدة كل أسبوع تشتري كل حوائجها ولوازمها المنزلية.

تخيلوا عمرها 70 سنة وتخدم نفسها بنفسها وتعيش بطريقة مذهلة، لم تطلب خادمة سيلانية ولا عاملا بنغاليا لمساعدتها، والأغرب أن لديها 3 بنات كلهن متزوجات يزرنها مرة كل شهر.

وحين قلت لها: لِمَ لا تعيشين مع إحدى بناتك؟ ضحكت وقالت: ولماذا أعيش معهن وأنا قادرة على العيش في بيتي والعناية بنفسي وممارسة حريتي؟!

كانت في السبعين من العمر في العام 2000، كانت أسنانها كاملة وقوية، كانت تكسر بها اللوز والجوز حتى كنت أخشى أن تعضني حين أُغضِبها.

كانتْ صحة العجوز أنجلي أفضل من صحتي أنا ذو الثالثة والثلاثين ربيعا وقتئذ، وكان نشاطها أعلى بدرجات من نشاطي وهمتي وكان معدل تفاؤلها بالحياة أعلى بمراحل من معدل تفاؤلي.

آخر نصيحة وجهتها السيدة "إنجلي" لي قبل سفري: "عبدالله، إذا أردت أن تعيش سعيدا فافعل ما يريحك ولا تكترث لرأي أي مخلوق.. فالحياة لا تكترث لأحد أبدا، تأكد بأنه لن يكترث أحد لأجلك حين تموت!!".

صدقتي والله أيتها العجوز الحكيمة، نحن لا أحد يكترث بنا أحياء، فكيف إذا متنا!!

أتوقع أن السيدة أنجلي ما زالت على قيد الحياة حتى اليوم، أتوقع أن "كورونا" قد أصابها لكنها انتصرت عليه بسهولة وهزمته بصلابة؛ لأن مثل هذه المرأة لا يمكن أن تمرض وتموت بسهولة، تلك المرأة الحديدية الصلبة لا يُمكن أن يقترب منها الموت بسهولة. فالموت لا يفضل أمثال السيدة إنجلي، إنه يتردد من الاقتراب منهن.

الموت كالذئب يفترس الخرفان الضعيفة والشياه السقيمة:

مسكينات نساؤنا قبل وصولهن سن الخمسين يبدأن ماراثون مراجعة المستشفيات وحملة المواعيد الشهرية في مختلف العيادات من عيادة الباطنية إلى عيادة العظام، مرورا بعيادة العيون وعيادة الأسنان، ثم العودة بكيلوجرامين من الأدوية شهريا ترافقهن عتمة في البصر وروماتزم وآلام في الظهر والدوالي والنزول الأبيض والليل الأسود!

سبحان الله... ولله في خلقه شؤون!!