هكذا تنمو السياحة الداخلية

حاتم الطائي

تجليات المشهد السياحي خلال إجازة العيد الوطني تبرهن إمكانية النهوض بالقطاع

استدامة النمو السياحي ترتكز على رؤية تنموية طويلة الأمد للقطاع

الشركات الأهلية نموذج واعد للتطوير السياحي المستدام

"رُبَّ ضارةٍ نافعةٍ".. هذه العبارة العبقرية يُمكن تطبيقها على العديد من التَّحديات التي نُواجهها، ونظن بدايةً أننا لن نتمكن من تجاوزها، غير أننا سرعان ما نكتشف قدرتنا على تخطي ما يعترض مسيرتنا، إذا ما أحسنّا التدبير، وإذا ما استفدنا من الفُرص التي تُوفرها تلك التحديات.. وقطاع السياحة نموذجٌ حيٌّ يُمكن أن نُطبِّق عليه هذا المنطق الإيجابي المُتفائل رغم أيِّ ظروف تعتري واقعنا وتزيد من حدته، وأخصُ بالذكر أزمة جائحة كورونا التي عصفت- بلا شك- بالعديد من القطاعات الاقتصادية وعلى رأسها السياحة باعتباره قطاعاً حساسًا وعرضة للتقلبات أكثر من غيره.

لكنَّ تجليات المشهد السياحي خلال إجازة العيد الوطني الخمسين للنَّهضة (أي على مدى الأيام الأربعة الماضية) برهنت أنَّ هذا القطاع الواعد يستطيع النهوض من كبوته دون الاعتماد على السياحة الدولية الوافدة من الخارج، والتي تكاد تكون توقفت منذ بدء تفشي الوباء في أنحاء العالم، ما تسبب في خسائر تتراوح بين 600- 900 مليار دولار أمريكي، وهو رقم هائل للغاية ويُمثل نسبة كبيرة من الناتج الإجمالي العالمي. وإذا ما وضعنا عدسة مكبرة على خسائر هذا القطاع في السلطنة، سنجد أنَّ الخسائر لا يُمكن حصرها في جانب بعينه؛ إذ تضرر القطاع الفندقي وهوت نسب الإشغال في الأشهر الستة الأولى من العام الجاري بنحو 53% وفق الإحصاءات الرسمية، مُقارنة بالنصف الأول من 2019، ناهيك على توقف الرحلات السياحية التي كانت تمثل مصدر رزق للكثير من شبابنا العماني، إضافة إلى تضرر قطاع السفر والطيران على مستوى العالم؛ حيث تُقدر الخسائر بنحو 87 مليار دولار، وربما يقترب الرقم من 100 مليار دولار، رغم التعافي البطيء، ولا شك أنَّ قطاع الطيران في عُمان له نصيب من هذه الخسائر.

إذن نحن نتحدث عن قطاع ينزف منذ شهور، والجميع يبحث عن حلٍ لانتشال القطاع من أزمته، رغم أنَّ الحل البسيط قائم أمام أعيننا، وأكدته إجازة العيد الوطني، ألا وهو النهوض بالسياحة الداخلية، وتوجيه الأنظار إليها من خلال تشجيع المُواطنين والمُقيمين على القيام برحلات سياحية داخلية تدعم القطاع، وخاصة القطاع الفندقي. والسياحة الداخلية في العديد من دول العالم مصدر نمو لا يُستهان به، إذ تُسهم هذه السياحة في تنشيط الحركة التجارية والاقتصادية، من خلال زيادة مُعدلات التسوق والتنزه والإنفاق، ومن ثمَّ تنمية قطاعات أخرى تقوم على السياحة. ففي الأيام القليلة الماضية بلغت نسب الإشغال الفندقي أكثر من 95% على مستوى محافظات السلطنة، فضلاً عن قفزة غير مسبوقة في سياحة التخييم والسفاري، وكشفت تلك الإجازة الرغبة الأكيدة والقُدرة المالية لدى قطاعات عريضة من المُجتمع على الإنفاق السياحي الداخلي، والجميع شاهد كيف أنَّ البعض لم يجد مُجرد غرفة في فندق أو استراحة في إحدى الولايات، طيلة أيام الإجازة، إذ حُجزت بالكامل قبلها بفترة طويلة، فكانت النتيجة أن انتعشت الأسواق والمراكز التجارية، وازدهرت مبيعات المطاعم والمقاهي خلال الأيام الأربعة الماضية، وكل ذلك فوائد اقتصادية كبرى، ناهيك عن المنافع الاجتماعية مثل إسعاد الأسر وإدخال البهجة على نفوس أطفال حبسهم الوباء في منازلهم لشهور طويلة. ولعلنا نتذكر ما كنَّا نرصده في مثل هذه الإجازات عندما كانت السيارات تصطف بالمئات على الطرق الدولية المؤدية لدول الجوار وتكتظ الطائرات المُغادرة إلى وجهات سياحية لا أبالغ إذا قلت إنِّها أقل جمالاً وأضعف ثراءً طبيعياً من السلطنة، فبلدُنا بلد الجمال والطبيعة الساحرة، لكننا لم ننتبه لذلك إلا في ظل الوباء!!

الشاهد أنَّ الانتعاشة السياحية التي حدثت في الأيام الماضية يُمكن تعزيز استدامتها، على الأقل بشكل أسبوعي، فكل أسرة ربما تبحث في نهاية كل أسبوع عن قضاء "ويك إند" ممتع يقضي على إرهاق أسبوع عمل، ويمنح كل فرد الاسترخاء والبهجة والسعادة التي يبحث عنها. لكن لتحقيق الاستدامة ينبغي أولاً مُعالجة التحديات التي ندركها جميعًا، وتحدثنا عنها كثيرا في مقالاتنا وعبر مختلف الوسائل الإعلامية. إنها تحديات جوهرية لن نتمكن من تجاوزها إلا إذا نفذنا خطة طموحة، لا ترتكز فقط على صنع شعار أو إطلاق حملة ترويجية تحفيزية للسياحة الداخلية، وإن كان ذلك ضرورة لا غنى عنها، إلا أنه في المُقابل يجب أن تتوازى مثل هذه الإجراءات مع خطوات أخرى لا تقل أهمية، وعلى رأسها:

أولًا: إعلان خطة طموحة ومُتكاملة لتعزيز استدامة النمو السياحي، وبدلاً من استهداف ملايين السياح الوافدين من الخارج، نستهدف جذب سياح الداخل والاستفادة من قوتهم الشرائية في السلطنة، بدلاً من توجهها إلى الخارج القريب أو البعيد.

ثانيًا: إرساء نموذج "سياحة طوال العام"، من خلال الاستفادة من التنوع الجغرافي والمناخي في السلطنة، فعلى مدى الفصول الأربعة، تزخر عُمان بثراء طبيعي يأسر الألباب، ففي الفترة من أكتوبر وحتى نهاية مارس تزدهر السياحة الشتوية في كل أرجاء الوطن، ومن أبريل إلى سبتمبر تنتعش السياحة في الجبل الأخضر؛ حيث تتراجع درجات الحرارة وتوفر طقسًا عليلاً يوفر ملاذا من الحرارة المرتفعة خارج الجبل الأخضر، بينما في الفترة من يونيو وحتى نهاية أغسطس تتألق جنة الجنوب، صلالة، في موسم خريفي لا مثيل له في الجزيرة العربية، كما يُمكن التمتع باعتدال الطقس في الفترة من سبتمبر وحتى نهاية العام في مسندم حيث الرحلات البحرية المُمتعة بين جبال تلك البقعة الغالية من الوطن.

ثالثاً: وضع مُخطط رئيسي "Masterplan" لمختلف المواقع السياحية، وأخص بالذكر هنا الجبل الأخضر، إذ ما زالت تلك المنطقة السياحية الفريدة من نوعها في المنطقة، بدون مخطط سياحي واضح المعالم، فالحاجة ماسة لإعداد هكذا مخطط طويل الأمد يرتكز على رؤية تنموية سياحية للعشرين عاماً المُقبلة، بحيث يتم تحديد منطقة لإقامة فنادق متنوعة الدرجات، وإنشاء استراحات ومخيمات تجذب السياح من الداخل قبل الخارج، فضلاً عن تنظيم الأنشطة الرياضية السياحية، وفي الوقت نفسه تضمن هذه الرؤية الحفاظ على المحميات الطبيعية وصون البيئة، وهما عنصران أساسيان لاستدامة أي نشاط اقتصادي. وأضرب مثالاً بسيح قطنة في الجبل الأخضر، الذي يُمكن تخصيصه للتنمية العمرانية السياحية، من خلال تقسيم هذا السيح إلى مشروعات سياحية عقارية متعددة تتوافر فيها كل الخدمات المطلوبة.

رابعًا: إنشاء شركات سياحية أهلية، مملوكة لأهالي المنطقة التي يجري تطويرها سياحيًا، بحيث تمثل مصدر دخل لهم، مع ضمان إدارتها وفق رؤيتهم التنموية التي تُساعدهم على تحسين أوضاعهم الاقتصادية. ولنا في تجربة قرية السوجرة بالجبل الأخضر نموذجاً عبقرياً، في كيفية الاستفادة من المقومات المحلية البسيطة في اجتذاب السياح، من خلال إعادة تأهيل وصيانة البيوت التراثية والحارات القديمة ومنح ملاك هذه البيوت نسبة من الأرباح المتحققة.

وختامًا.. إنَّ النهوض بالقطاع السياحي لن يتحقق إلا بتضافر الجهود المجتمعية والحكومية، والاعتماد في المقام الأول على السياحة الداخلية، من خلال ترسيخ معادلة بسيطة طرفاها التنمية السياحية المستدامة والعروض التسويقية بأسعار مناسبة، ومن ثمَّ ينتعش القطاع وتتزايد فرص العمل لشبابنا من الباحثين عن وظيفة، ويزدهر الاقتصاد من خلال حركة استهلاكية وتجارية نشطة طوال العام، تعمل على تدوير السيولة النقدية في الأسواق، تضمن في نهاية كل عام نمواً في الناتج المحلي الإجمالي بفضل الازدهار السياحي.