سلام الخمسين من ورثة الأنبياء

 

 

عائشة بنت أحمد البلوشية

 

كانت عيون العُمانيين تتعلق بشاشات التلفاز في الثامن عشر من نوفمبر من كل عام، انتظارًا لتلك الإطلالة السامية لمُؤسس النهضة العُمانية الحديثة، جلالة السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه-، ثم ينطلق صوت قائد طابور الاستعراض العسكري صادحاً في الأجواء: (طابور، سلام لجلالة السُّلطان المعظم، سلام قف)، فتسعد النفوس وهي ترى ذلك الانضباط بدقة مُتناهية، حتى تكاد تظن أنَّ مسطرة خفية تحفظ جميع الأبعاد والمقاسات والحركات والسكنات، ويستمر بعد ذلك برنامج العرض؛ كما كان حفل التاتو في السنوات الماضية يأتي على رأس كل خمسة أعوام، ليصبح للعيد الوطني زخماً جميلاً، وأبهة راقية تكون خاتمة مسك احتفالات العيد الوطني في ذلك العام، وما أجمل المهرجانات الطلابية، التي تتزين بها ساحات الاستعراض، وتلك التشكيلات الرائعة للطلاب والطالبات التي يبذل فيها معلمو التربية الرياضية، قصارى جهودهم لتظهر فرحة الطفولة والناشئة بعيد سلطانهم وبلادهم؛ كانت الاحتفالات التي تأتي كل خمسة أعوام ذات نكهة مُختلفة، تجعل من البلاد خلية نحل، تعمل بوتيرة يسودها الاتزان والنظام، كل منزل يشارك أحد أفراده في الاحتفالات المتنوعة، فإما عسكريا أو طالبا أو معلما أو كشافا أو مرشدة أو موظف خدمات، مشتركون في الاستعراضات المتنوعة على مدى الأيام المختلفة، أما بقية أفراد الأسرة فيشتركون من خلال متابعة الأفراح حضورا، أو على شاشة تلفزيون سلطنة عُمان، ونجد الاشتراك في البث من قبل بعض الدول الشقيقة والصديقة.

منذ انتهاء احتفالات العيد الوطني الخامس والأربعين، والجميع يمني النفس راسما في مخيلته روعة الاحتفالات باليوبيل الذهبي للنَّهضة المباركة، لأننا وكما اعتدنا على رأس نهاية نصف عقد، وليس أي عقد، بل هو المتمم لنصف قرن لنهضة مباركة مستدامة، فبعد مضي خمسة أشهر للعام الخمسين، كان رحيل مُؤسس نهضتنا الحديثة حضرة جلالة السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه-، وكعادة سلطنة عمان الشامخة وسلاطينها النجباء رغم حزنها، كان النظام والانضباط سيد الموقف، لتضرب في عام يوبيلها الذهبي أروع مراحل انتقال السلطة بكل كياسة وسلاسة، وأجمل مراسم الحداد لسلطان كان عاشقا للفرح والتفاؤل، لوطن ودع حبيباً وبايع نجيباً، في ملحمة تفوق الوصف روعة تناغم وتلاحم الصف العماني الواحد.

جاء العام الخمسون استثنائياً في جميع تفاصيله، حيث استعدت طوابير استعراض الوفاء والمحبة من نوع آخر غير شبيهة بالعسكرية، إنها لأطفال وطلاب أرادوا أن يقدموا لسلطانهم المفدى استعراضا تعليميا هو حدث القرن، وبدأ ورثة الأنبياء -قادة الطوابير- في إعداد عدتهم وعتادهم، امتثالا لكلمات المعلم الأول أيده الله، حيث جاءت جميع الخطابات الثلاثة لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق حفظه الله ورعاه، وتوجيهاته السامية في جميع الاجتماعات التي تفضل بترأسها، تحث على أهمية التعليم في ظروف فرضت علينا الكثير من القيود، وجاء يوم الثامن عشر من نوفمبر هذا العام، ومهرجان طلابي عجيب له طنين كالنحل المستنفر، حيث تتعلق الأحداق الصغيرة بالشاشات على اختلاف أنواعها، ونرى المعلمين والمعلمات يجاهدون مع خيوط الشمس الأولى، وقلوبهم مُعلقة بشاشات أجهزتهم بعد مرور سبعة عشر يوماً على بدء العام الدراسي الجديد، يحاولون إيصال المعلومة الواضحة لطلابهم، وكم وصلت بهم الحالة حافة اليأس، بسبب (تعليق الجهاز)، ولا يسمع طلابهم صيحة بدء طابور الاستعراض، كل ما يتناهى إلى آذانهم غمغة غريبة، وكم هي عظيمة تلك الفرحة عندما يتمكن المعلم أن يشرح لطلابه الحصة، غاضين الطرف عن تلك الانقطاعات المتكررة، ليعيش أولئك الطلبة المحظوظون هذه التجربة الفريدة والجديدة، يدرسون ويسألون ويجاوبون وكل في بيته، لكن كم تتحطم الأحلام الصغيرة على صخرة المجهول لدى الجانب الآخر، لأطفال استيقظوا فرحين، وجلسوا أمام شاشاتهم منذ الصباح الباكر منتظرين رؤية قائد طابور درسهم دون جدوى، لتمر الساعات تجرجر عقاربها، وتتغضن ملامحهم البريئة لأنهم لم يروا وجه معلمتهم الصبوح، ولم يدرسوا شيئاً، وهم أشد اشتياقاً كي يعيشوا رحلة العلم في حضن المنزل.

 

تجربة وليدة، لها ما لها، وعليها ما عليها، والمعلم يقف عاجزا، ما بين لائمة المجتمع، ووجوده في صدارة الموقف، وحاجته للتدريب الكافي، ليأتي انقطاع الشبكات ما بين الفينة والأخرى مزلزلا له، وهو الحريص كل الحرص على أداء الأمانة، مما حدا ببعضهم إلى استخدام تطبيقات أخرى حتى يتمكنوا من التواصل مع طلابهم، كي لا يتسلل الإحباط إليهم، بسبب تفكيرهم وجزعهم من عدم حصولهم على الكم الكافي من المناهج في كل مادة، ومع مرور هذه المدة البسيطة، إلا أنَّ كل ولي أمر سأل نفسه ولو لمرة واحدة على الأقل: كيف يستطيع المعلم الإيفاء بأسئلة ومداخلات ونقاش ما يربو على الثلاثين طالباً في غرفة واحدة؟ بل كيف له أن يشرح، ويقوم بالعمليات السابقة في زمن الحصة الواحدة؟ ثم يخرج من صف إلى آخر، وربما لا يجد في يومه سوى حصة فراغ واحدة، ليقوم بالتصحيح وغيرها من المُتابعات الأخرى التي غالباً ما يحملها معه إلى منزله، نعم أيها المجتمع العالمي، إنه المعلم الذي جاءت جائحة كورونا لتقول للعالم، إن مهمته شاقة مضنية محشوة بالأثرة في كل زواياها، ويستحق منِّا المعلم الأول في سلطنتنا الحبيبة مولاي حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله-، الذي استلم الحكم، وظروف عصيبة تعصف بالعالم كله، ولايزال يكابد الصعاب كل يوم، ليحتوي حال الوطن بشرائحه المختلفة، يفكر في أبجديات الحقل التربوي، يستحق أن يقوم كل بواجبه تجاه الوطن ومليكه، وأن نصدح له جميعًا بحناجرنا: (طابور طلابكم ومعلميهم مستعد لبدء الاستعراض مولاي، فهل تأذنون لهم بالبدء، مولاي؟)، ونقف مستبشرين متفائلين بأننا سنقهر المستحيل، وبإخلاصنا جميعاً ستزدهر الورود الذهبية في أرجاء نهضتنا المتجددة، ونصل بها إلى يناير المُقبل حيث نروي بحبر الجد والاجتهاد مجد رؤية ٢٠٤٠م، ونعمر عُمان إلى أسمى المراتب، وهذا ليس بالصعب أبدأ على الإنسان العماني، الذي قهر الجبال ورفع بنيان قلاعه وحصونه متحدياً وعورتها، وشق بيديه العاريتين ومعوله الصخر ليرسم هندسة الأفلاج التي أدهشت العالم في روعتها.

 

 

توقيع:

إلى كل معلم ومعلمة وأنا منكم: لنستمد الهمة التي لا تلين من هيثم العهد السعيد.

إلى كل طالب وطالبة علم: أنتم أحفاد ربابنة المحيطات، وصانعي المستحيلات، اربطوا علمكم بالمستقبل القريب، وعينكم على البعيد.

إلى كل ولي أمر: جزاكم الله خيرا في وقوفكم إلى جانب المعلم، في تلاحم فريد.

ختاماً: عُمان ستحصد نتاج عام نسجنا خيوط ثوبه معا، فليكن النسيج بروعة عطائكم المجيد.