في المساحة الإعلامية المتحركة "بين بلاغين" (2- 3)

د. مجدي العفيفي

(7)

ماذا كان يجري في الدور الخامس من مبنى وزارة الإعلام بمسقط لمدة أحد عشر عاماً ما بين عامي 2001 وعام 2012؟ وماذا صدر منه إلى الوجود الخارجي؟ ولماذا آثر الأستاذ حمد الراشدي أن يكون الباب الأخير من كتابه "بين بلاغين" بعنوان «في الدور الخامس» وهو يوثق محطات ومراحل رحلته الإعلامية التي بدأت في يونيو 1974 ووقوفه الهادئ عند مرحلة الأحد عشر عاماً فترة توليه وزارة الإعلام؟

يرسم المؤلف مشهدا عاشه في العاشر من يونيو 2001 أي تشرف حمد الراشدي بالتكليف السامي من جلالة السلطان قابوس بتعيينه وزيرا للإعلام، بعد شغله مسؤولية وكيل وزارة الإعلام أربعة عشر عامًا، وكان الوزير السابق الأستاذ عبدالعزيز الرواس قد استدعاه لمنزله ظهر يوم الخميس 7 يونيو، وأبلغه بهذا التكليف.. «أبشرك باختيار جلالة السلطان لك لكي تكون وزيراً للإعلام.. تحدثت مع جلالته حول التغيير في الإعلام، وقال جلالته إنه كان يُريد أن يفاتحني في ذلك.. فأكرمني جلالة السلطان بأن أكون مستشاراً له للشؤون الثقافية،، فسألني عنك، فأجبته بأنَّك الشخص الأنسب...» وكان صدور وإعلان المرسوم السلطاني وأداء قسم اليمين أمام جلالة السلطان.

بهذا التكليف الأسمى بدأت «المهمة العظمى».. لماذا وصفها الرجل بأنها مهمة عظمى؟ سأجيب بعد سطور، إذ إني أشهد أن كل ما جاء في كتاب حمد الراشدي«بين بلاغين» إنما هو حق إعلامي.. يؤكد ما قبله ويمهد لما بعده، كما سأسرد ذلك في سياق قادم.

في الدور الخامس.. يغويك المؤلف حمد الراشدي بعناوين براقة.. ويغريك بغموض إعلامي شفيف.. من قبيل: الصورة سيدة الموقف.. الطموح جامع لكن الواقع كابح.. تغطية المعمورة.. القناة الحلم.. ضربة معلم.. مبنى الأستديوهات الرقمية الجديد.. الطريق إلى القنوات العشر.. الإذاعة بأجنحة خمسة..الهيئة العامة للإذاعة والتليفزيون.. الإنتاج الدرامي وتحدياته..البلسم السامي..قنوات إذاعية وتليفزيونية خاصة.. تدريب الصحفيين بأمر جلالته.. معرض مسقط الدولي للكتاب.. الزيارات الخارجية..المؤتمرات.. الوسامان الثاني والثالث.. أمناء في المسؤولية خلصاء في العمل..

أسرار مُبطنة وكشوفات يظهرها بهدوء.. لا صخب.. ولا أنا طاغية.. حتى لتجد نكران الذات إلا قليلا امتزاج بين الذات والموضوع.. لا سيتعرض بل يعرض صورا ومشاهد.. توثق وتحقق وتدقق وتحلق في فضاء من الصدق والمصداقية..

(8)

 ومن القسمات الجميلة في وجه هذا الكتاب الأكثر جمالا.. أنه يكسر أفق التوقع، فقد تعودنا في كثير من المذكرات التي يكتبها البعض أن يضخموا أدوارهم فيصغروا من أدوار الآخرين، لحاجة في نفوس هذا أو ذاك يقضيها، تبريرا أو دفاعا أو درء لمفسدة، أو تغطية لمآخذ. أو.. أو.. أو..!

لكن حمد الراشدي طرح كل ما عنده بهدوء وانسيابية.. عبر تشكيلة من الصور ووثائق ومستندات.. والأكثر صدقا ومصداقية هو سرديات الكاتب التي صاغها بمداد التجربة والخبرة والرؤيا والرؤية..

هذه واحدة والثانية أنه لا يريد جزاء ولا شكورا من أحد، بل هو يهدي تجربته لمن أراد أن يذكر أو أراد حضورا إعلامياً في زمن، يتسم بأن من أكبر عناوينه الآن هو أنه عصر الإعلام.

وإني لأرى أن هذا الكتاب إنما هو جسر عابر للخبرات، ومنصة لإطلاق رحيق التجارب وحريقها أيضاً، لقد حق للأستاذ حمد الراشدي أن يستخدم تعبير «المهمة العظمى» في الصيرورة الإعلامية العمانية.. لماذا ؟ حين أجيب فإني أشهد، وشهادتي غير مجروحة، كرجل إعلام عاش في مسقط 26 عاما متواصلة.. شاهدا وشهيدا ومشاركا ومساهما..

(9)

إذ جئت عُمان وأنا في ربيع العمر وغادرتها وأنا في خريف العمر.. لحظة أن انتصف ليل عُمان يوم 30 أبريل 1984 كانت الطائرة تحلق بي في الأجواء العمانية لتهبط في «مطار مسقط الدولي» وحين انتصف ليل مسقط يوم 24 يناير 2010 كانت الطائرة تقلع من الأجواء العمانية لتعود بي إلى «مطار القاهرة الدولي» وما بين هذين التاريخين استغرقت الرحلة ستة وعشرين عامًا، تجاورت فيها السياسة مع الثقافة، وتحاورت الصحافة مع المجتمع والناس، واشتبك الخاص في العام، والتفت الأشواق بالأشواك، تحديقاً وتحقيقاً وتحليقاً، فتخلت نفسي عن أشياء، وتحلت في نفسي أشياء، وتجلت في نفسي أشياء، وما بين «التخلي والتحلي والتجلي» تشكلت أطول شريحة من عنفوان العمر الذي اشتعل قلمًا وأملا، فاستمرت تجربة حياتي في سلطنة عُمان بلا توقف، وتسلسلت دون انقطاع، فتواصلت فيها الرؤى، وتكاثرت الانعطافات، وتوالت التحولات، سواء على المستوى الذاتي، أم على الصعيد الموضوعي، شهدت فيها تحولات الإنسان مع الزمان وتشكيلات المكان، وشاهدت تشييد المجتمع لبنة لبنة، رصدت حراكه معنى ومبنى، تحركت بين القاعدة والقمة، عثرت على جوهر الشخصية العمانية بعد طول مجاهدة، فصورت ذلك في ألوف الصفحات عمليًا وعلميًا. سواء بالكتب العشر التي وضعتها على رفوف المكتبة، أم بالكتابة الصحفية في عشرات المواقع الإعلامية التي تحركت فيها عنصرا مشاركا ومؤسسًا، أم كمراسل صحفي لكبريات الصحف والمجلات العربية والأجنبية.

(10)

إني رأيت أحد عشر عامًا من سنوات التحديات الإعلامية..

وكلمة التحديات هي الشفرة التي تفك الجهاد الإعلامي الذي بدأه الأستاذ عبدالعزيز الرواس منذ بداية عقد الثمانينيات، حين تولى وزارة الإعلام في فترة كانت من أشد الفترات الزمنية توترا على تباين الأصعدة العربية والإقليمية والدولية، واستمرت تداعياتها فشهدت الكثير من الأحداث الدامية والتحولات المتسارعة والحروب غير المسبوقة وغير المتوقعة؛ إذ كانت حقبة زمنية متغيراتها أكثر من ثوابتها إلى حد كبير، كانت انعكاساتها على الاستقرار الدولي جلية، نتيجة لازدياد حدة التوترات المستعرة والصراعات المستمرة من جهة، وتصاعد نزعة العنف والإرهاب من جهة أخرى، وكان لمنطقة الخليج النصيب الأوفر من تلك الأحداث.

وكانت الصورة هي من أكبر التحديات الصورة بغوايتها ووشايتها ورشاقتها وجبروتها وهيمنتها على عالم  التلقي والمتابعة. وكان التزامن بين تفاعلات الصورة وتولي الراشدي قيادة الإعلام مصدر للإنشغال الإعلامي والدقة والتحسب  لمجريات الأمور، مثلما كانت الكلمة والصحيفة هي البطل مع الصور المحدودة نسبيا وتاريخيا في حقبة تولي الاستاذ «عبد العزيز الرواس» قيادة سفينة الإعلام في بحر لجي من التوترات والصراعات  والنزاعات والتمزقات..

إنها تحديات تتخذ أشكالا عديدة وتشكيلات سرية تستدعي الحيطة والحذر.. وإلي سطر جديد من  السردية الإعلامية العمانية...!