الوطنية الحقة

 

عبدالغفار بن عبدالكريم البلوشي

 

من رحم الأزمة ومخاضها تولد الفرص، وعند الشدائد تظهر معادن الرجال وتختبر الدول، وبين ليلة وضحاها،  تتغير الأحوال دون سابق إنذار.

تحت وطأة جائحة الكورونا دب الذعر في البشر واستنفرت الدول وتوقفت دواليب الاقتصاد العالمي وتهاوت معها أسعار الذهب الأسود.

فالأزمة التي تُواجهها كافة دول العالم تفرض علينا في السلطنة تحديات ما كنَّا نبتغيها أو قادرين حتى على تصورها. ولكن ها نحن نقف أمام مثل هذه التحديات، وعلينا كمُواطنين أن نصبر ونتكاتف ونجتهد فكرياً وعملياً لنتجاوزها معاً إلى ما هو أفضل وأجمل بإذن الله للوطن والمواطن.

وكافة دول الخليج- تعد من الناحية الاقتصادية- دولاً نامية، بالرغم مما تتمتع به من مداخيل ضخمة من النفط. وما يُميز المنظومة الاقتصادية في معظم الدول النامية هو اعتمادها الكبير على تصدير المواد الأولية، الزراعية منها والمعدنية والنفطية وما إلى ذلك من مواد خام طبيعية. وبما أن الدول النامية تفتقر للقدرات التصنيعية والمعرفة التقنية وللمنظومة التعليمية القادرة على إنتاج هذه القدرات والمعارف، تركن هذه الدول وتتكل على الدخول في شراكات مع شركات عالمية لاستخراج ما لديها من مواد خام وتقوم ببيعها كمواد أولية وتستغل عائداتها في تقديم الخدمات إلى مُواطنيها.

واستطاعت بعض الدول النامية، من خلال التخطيط الجيد واستشراف المستقبل وتحدياته، أن تطور منظومة تعليمية جيدة مكنتها تدريجيا من إنشاء شركات وطنية قادرة على استخراج المواد الأولية وتأسيس شركات صناعية تقوم بدورها بتحويل تلك المواد الأولية إلى منتجات ذات قيمة مضافة ومضاعفة تدر عليها أضعاف ما كانت تحصل عليه من مجرد تصدير المواد الخام.

وشرعت السلطنة، في تقديري، ومنذ فترة في اتباع النهج الصحيح لتطوير اقتصادها انطلاقًا من قاعدة تطوير المنظومة التعليمية والشروع في إقامة شركات صناعية تحويلية للمواد الأولية وبناء شبكة لوجستية جيدة تمنحها الاستقلالية والقدرة على المنافسة الإقليمية،  بيد أنَّ هناك مجالا كبيرا في تقديري لتحقيق المزيد من التقدم في هذا المسعى من خلال تعزيز المنظومة التعليمية لتواكب عصر الابتكار وتقنية المعلومات، وإعادة هيكلة وحوكمة الأجهزة الحكومية والشركات الحكومية لتعزيز كفاءتها الإدارية والمالية، والاستغلال الأمثل للموارد المالية المتاحة للدولة وهذا ما وضعه جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- على سلم أولويات العمل الوطني للفترة المقبلة.

ومن وجهة نظري، وفي ظل الأوضاع الاقتصادية الراهنة، أرى أن مراجعة النظام الضريبي في السلطنة أصبحت ضرورة ملحة. أن الدولة قدمت الكثير  لتطوير القطاع الخاص ودعمته لنصف قرن من الزمن ليبلغ مستواه الحالي الذي يمكنه من خوض غمار المنافسة دون الاتكال على موارد الدولة وتسهيلاتها، بل هو قادر ومطالب الآن أكثر من أي وقت مضى،  بالمساهمة في تعزيز إيرادات الدولة التي لم تبخل عليه بشيء قط طيلة العقود الخمس الماضية. كما أن مسيرة التنمية في البلاد وفرت فرص التعليم والعمل الجيدة التي أنتجت شريحة لا بأس بها من المواطنين الذين  ينعمون بمداخيل عالية تمكنهم أيضًا من المشاركة في تحمل الأعباء والمساهمة في تعزيز الموارد المالية للدولة.

أنا على يقين بأن كل مواطن في هذه البلد التي نعتز بها وتعتز بنا، مستعدًا للبذل والعطاء، كل حسب إمكاناته وموارده، من أجل أن تبقى عُمان أبية عزيزة في السراء والضراء وعصية على النيل من قيادتها وشعبها في أي وقت وحين.

وفي هذا السياق ومن هذا المنظور وفي ظل الظروف الراهنة، أقترح النظر  في الأخذ بما هو مناسب من أنواع وبرامج الضرائب التالية:

 

- النظر في زيادة ضريبة الشركات (Corporate Tax) على الشركات الكبيرة حسب التصنيف المحلي لها، علمًا بأنَّ المتوسط العالمي لنسبة ضريبة الشركات يبلغ 21.4%  وفي بعض الدول مثل فرنسا يبلغ 34.4% بينما في السلطنة تبلغ النسبة 15% فقط.

- النظر في فرض ضريبة الدخل (Income Tax) على الأشخاص الذين تتجاوز إيراداتهم ودخلهم الشهري 5000 ريال على سبيل المثال مع مُراعاة أن تحتسب الضريبة على ما يتبقى من هذا الدخل بعد استقطاع كافة المصاريف المعيشية منه وفي مقدمتها الأقساط المصرفية وإيجار السكن وتكلفة المواد الغذائية وفواتير الكهرباء والماء والهاتف ورسوم المدارس الخاصة وعلى أن تكون الضريبة تصاعدية (Progressive Tax) ، أي تزداد بزيادة الدخل، علما بأنَّ نسبة هذه الضريبة تبلغ 5% في بعض الدول النامية وتبلغ 59% في بعض الدول الإسكندنافية.

- فرض ضريبة عقارية (Property Tax) سنوية على كل عقار (منزل، مبنى، أرض)  تتجاوز قيمته السوقية 250 ألف ريال على سبيل المثال، علماً بأن متوسط هذه الضريبة عالمياً يتراوح بين 2% إلى 5% ويتم تحصليها في بعض الدول من قبل المحافظات والمقاطعات وذلك لتمويل المشاريع والخدمات البلدية. ويمكن إعفاء من يمتلكون عقارا واحدا من هذه الضريبة وتحصيلها فقط ممن يمتلكون أكثر من عقار.

- فرض ضريبة على شراء السلع والمنتجات الفاخرة (Luxury Goods) مثل الساعات واليخوت والطائرات الخاصة والمجوهرات والسيارات الثمينة وما إلى ذلك، والتي يتجاوز ثمنها 50 ألف ريال على سبيل المثال، وفي المتوسط تبلغ نسبة الضريبة 10%.

- العمل بضريبة الأرباح الرأسمالية (Capital Gains Tax) والتي تفرض على ما يحققه الشخص من أرباح  من بيع العقارات والأسهم والسندات والمجوهرات والمقتنيات الثمينة والتي تتجاوز قيمة الأرباح منها 20 ألف ريال على سبيل المثال، وهي تحتسب وتستقطع في بعض الدول من ضريبة الدخل السنوية وتتراوح نسبتها بين 10% إلى 20% استناد إلى معدل دخل الفرد.

- فرض ضريبة على التحويلات المالية للعمالة الوافدة أو زيادتها بنسبة معقولة بعد التشاور مع أصحاب الأعمال.

وفيما يخص دراسة الخيارات أعلاه وغيرها، ولضمان أن تكون الدراسة موضوعية ومستقلة ومحايدة، يُمكن النظر في التعاقد مع أحد الخبراء الأكاديميين المرموقين والمستقلين في مجال نظام الضرائب لتقييم فاعلية النظام الضريبي القائم في السلطنة وتقديم التوصيات التي من شأنها زيادة إيرادات الدولة مع الحرص على مُراعاة المبادئ والمقاصد التالية في الدراسة:

- التدرج في تطبيق نظام الضرائب وتقييم ومراجعة النظام في نهاية كل عام لتصحيح الأخطاء وتطوير إجراءات التحصيل وتسهيلها.

- الحرص على أن تكون الضرائب بمختلف فئاتها تصاعدية، تزداد بزيادة الدخل ولا تفرض على ذوي الدخل المحدود.

- تحديد وتعريف من هم ذوي الدخل المحدود والمتوسط والمرتفع استنادًا إلى الدخل والمصاريف المعيشية.

- إعفاء الشركات متناهية الصغر والصغيرة وبعض الشركات المتوسطة الناشئة من الضرائب وفرض نسبة ضريبة متدنية وتدريجية على بقية الشركات المتوسطة وذلك لتحفيزها للنمو والتوسع لتصبح في مصاف الشركات الكبيرة.

- منح مجموعة من الإعفاءات الضريبة التي تحفز الشركات بالتبرع للمشاريع الاجتماعية والخدمية، وللأفراد أيضًا الذين ينوون الزواج مثلا.

- تقييم هيكل وآلية عمل جهاز الضرائب القائم وتقديم مقترحات لتطوير آلية عمله وكفاءته واستقلاليته.

إن الأوضاع الاقتصادية الراهنة تشكل تحدياً كبيرًا للوطن والمواطن على حد سواء، وينبغي على الجميع، الميسورين قبل المعسرين، أن يكونوا على قدر المسؤولية الوطنية في هذه المرحلة الزمنية بالغة الدقة في مسيرة النهضة المباركة المتجددة والتي تحتم علينا أن نتجرد من التفكير في مصالحنا الفردية والفئوية الضيقة وأن نكون يقظين تجاه ما يُحيط بنا من أحداث وتطورات وأن نلتف جميعاً حول قيادتنا الرشيدة ونشاركها عمليًا في حمل الأعباء المالية ومساندتها فكريًا  ومعنويًا وفي هذا تكمن الوطنية الحقة.

تعليق عبر الفيس بوك