ديمقراطيات لا تناسبنا

 

د. إسماعيل الأغبري

دأب قسم من سُكان عالمنا في الشرق، وقسم كبير من المثقفين، على الدعوة لاستنساخ تجارب والأنماط السياسية لدى الغرب، وكأنَّ الغرب لديه الحلول السحرية لكل معضلة.

وصارَ الغرب كأنَّه القبلة والوجهة والبوصلة والمحدد الذي ينبغي التحاكم إليه والحكم به؛ مما يعكس انصهارا فيه وإعجابا به حتى الذوبان.

عدد لا بأس به من المثقفين بيننا ينادون باستيراد الحياة السياسية الغربية؛ باعتبار ذلك المنهج أرقى ما بلغته الحضارة الإنسانية، خاصة في مجال ممارسة الشورى أي الديمقراطية. كشفت لذي عينين ممارسات الديمقراطية عيوبا كثيرة، خاصة ما جرى في الولايات المتحدة الأمريكية من انتخابات انطلقت يوم الثلاثاء 3 نوفمبر 2020. السباب والشتائم كان سمة من سمات المشادات خلال وقبل انطلاق الانتخابات، فإن كانت تلك الديمقراطيات واضحة المعالم فلم تبادل الشتائم؟ أليس وقوع هذا بين مترشحين في بلد من بلداننا يعد مثلبة؟ وسوف يقال إننا بلاد رجعية متخلفة لا نعي الشورى ولا نعرف الديمقراطية كالغرب؛ لذا تضيق صدورنا بالحريات؟ فما هم قائلون اليوم وذلك قد جرى في عقر بلاد الحريات والديمقراطيات؟

التهديد واستعراض بأنواع من الأسلحة والاستعانة بجماعات مؤذية تجوب الشوارع أو تقف قرب نقاط الفرز كان سمة بارزة خلال الفرز، وهذا يعتبر ضغطا على لجان الفرز ومحاولة فرض قوة السلاح على سلاح الكلمة الحرة في الاختيار، فيا ترى لو كانت هذه الممارسات في بلد من بلداننا ماذا سيكون قول  كثير من المثقفين والمعجبين بالنماذج الغربية؟ قد يصفون دولهم بممارسة الهمجية وإكراه الناخبين على الاختيار؟

لقد بدأت الاتهامات بالتلاعب بالأصوات وتزوير النتائج، بل تطور الأمر إلى اتهام والي كل ولاية بالانحياز لطرف دون آخر؛ مما يعني عدم أمانة والي الولاية، وهذا اتهام خطير يفقده المصداقية وينزع عنه الثقة.

تلك الاتهامات بالتزوير والتلاعب لم تصدر عن جريدة أو مؤسسة إعلامية، وإنما صادرة عن رأس الدولة وولي السلطة، فكيف يقرر رأس الدولة ذلك وهو في الأصل حامي حمى المجتمع ورقيب العملية الانتخابية؟

يا تُرى لو كانت تلك التصريحات تصدر عن زعامات وقامات عربية لقيل ذلك دليل تخلف منطقتنا وجهل الزعامات بأبسط أسس الديمقراطية، ولانبرى المثقفون المتعلقون بالغرب ذما وقدحا واستخفافا بمجتمعاتهم.

لستُ هنا مبررا، ولكن فقط مؤكدا أن الغشاوة أزالتها وقائع ومجريات كثيرة، ومنها وباء كورونا وعملية الانتخابات؛ فالغرب ليس الجنة الموعودة وليس البساط الأخضر. لقد بلغ الأمر خلال الانتخابات التخوف من عدم تسليم السلطة طوعا وهذه درجة كبيرة لا تختلف عما يجري في بعض المناطق العربية؛ فكيف إذن يدفع بعض مثقفي منطقتنا بالنموذج الغربي ليسود علينا وفينا؟!

الانقسامات بلغت مداها حتى في الشأن الصحي؛ إذ لاحظنا انقسام الناس بناء على انتمائهم الحزبي وليس بناء على مصلحة الدولة؛ فمن كان ميالا لحزب يرى من أبسط وسائل مقاومة كورونا ارتداء الكمامة، فإن جمهوره ارتدوها، ومن مال لحزب زعيمه يسخر من ارتدائها فإن جمهوره لم يرتدها، وعلى هذا فلماذا نحن نجلد ذاتنا عندما نرى الجماهير تسبح بحمد الزعامات العربية وتقدس لها ونتهمها بالغباء وأنها مسلوبة النهى وأن الشعوب العربية مجرد هياكل عظمية متحركة لا عقول لها؟

الغرب ذاته وفي أعز ما يفاخر به من ديمقراطية رأينا الانقسام المناطقي؛ فالمناطق ذات اللون الفلاني غالبا محسوبة على الحزب الفلاني وهي لن تصوت، إلا له، وإن صوَّتت لغيره اعتبر ذلك اختراقا؟ فأين إذن تقديم مصلحة الدولة على مصلحة الحزب والمنطقة؟ وأين مصير الدراسات العليا والتخصصات في مختلف العلوم اللسانية والتجريبية؟ كيف يظل المرء يصوت لحزب أبد الدهر ولو رأى منه اعوحاجا؟ أهكذا هي الديمقراطية التي نستغيث بها ونطلب نسخة طبق الأصل منها؟ أبهذه الديمقراطيات تسعد بلداننا وتأمن دولنا؟

للأسف الشديد حتى في بلاد الغرب الموت من أجل الحزب وزعيم الحزب والفداء من أجل الرئيس، وهذا يعني أنه ليس من داع أن نجلد ذاتنا ونشتم أوطاننا، ونزعم أننا متخلفون رجعيون، وأنه ليتنا نلحق بركاب غيرنا، فسفينة غيرنا لو عقلنا جاثية على يابس فكفى جلد ذاتنا وبلداننا؟

وكم نجلد دولنا بانتقادنا اللاذع لبرلماناتنا ومركز تشريعاتنا، ونزعم أنها مجرد دمية أو مستودع تلجأ إليها السلطة عند الحاجة إلى تمرير قانون لصالحها لتبرر للشعب أن ذلك كان رأي ممثلي الشعب وبرلماناته؟ بل للأسف لا يكتفي البعض بالنقد اللاذع لبرلمانات العالم العربي، وإنما يطالب بالاقتداء بالبرلمانات الغربية؟

مُدَّعيا أنها مستقلة ولا يُقضى أمر في ساحات الغرب إلا عن طريقها، ولا يمكن لتلك البرلمانات إذا اتخذت قرارا أن تتجاوزها السلطة، أو رأس السلطة، وأنها لها صلاحيات محاسبة الجميع حتى رأس السلطة بل عزله؟

هل هذا واقعي، أو هو من الإعجاب بثقافة الآخرين حتى الذوبان؟ أو هو مقت لتراثنا وولع وهيام وغرام وتأثر بما يجرى عند الغير؟ أو هو مسخ ونسخ طبق الأصل لما عند الآخر؟

ألم يثبت ثبوت الشمس في رائعة النهار أن دعوى جورج بوش وتوني بلير بامتلاك العراق سلاحا نوويا غير صحيح البتة وقد أكدت ذلك مراكز القرار في البلدين؟ ألم يسفر ذلك الاتهام تدميرا للعراق ونشأة حرب أهلية وحصار طويل الأجل وموت وجرح الملايين؟ الآن السؤال: أين المحاسبة؟ أين المحاكمات؟ نحن دائما نقول إذا أخطأ زعيم عربي أنه لو كان ذلك في الغرب لتمت محاكمته فهل حاكم الغرب وسجن من أطاح بدولة وحرق الحرث والنسل؟

وبعض مثقفينا يقولون بأن برلمانات الغرب لها القول الفصل وأنها ليست ألعوبة كبرلمانات العرب في يد الحاكم وأن قراراتها نافذة؟؟ هل هذا القول صحيح أو به عور وخلل؟

كم مرة أصدر البرلمان الأوربي بضرورة وقف الحكومات الغربية بيع السلاح للدول التي تشن الحرب على اليمن؟ هل التزمت الزعامات بقرارات البرلمان؟ هل توقفت تلك الدول عن بيع السلاح؟ هل تم احترام قرارات البرلمان؟

البرلمان في بريطانيا مرارا طالب الحكومة البريطانية بوقف بيع السلاح للدول المحاربة لليمن، فهل توقف بيع السلاح؟ وهل انتهت الحكومة إلى ما انتهى إليه البرلمان؟ كم زعيم ورئيس حوكم هناك حتى نطالب بالنموذج الغربي بديلا وقدوة ومهتدى؟ في عالمنا العربي؟

وفي إسرائيل أيضا كم تهمة تحيط برئيس الوزراء فهل عزل؟ أو استقال؟ أو تم تجميده عن رئاسة الوزراء؟

إن البرلمانات خارج منطقتنا العربية يتم استغلالها بطريقة أذكى وأدهى؛ فهناك إذا أرادت الحكومات عرقلة مساعدات وصوت البرلمان تتحاكم الحكومات لقرار البرلمان، فتقول نود العون لكننا دولة ذات صولة وجولة للناس عبر البرلمان، وقد صوَّت البرلمان بالمنع ولا نقوى على التجاوز، بينما يصير قرار البرلمان لا اعتبار له إن لم ترده الحكومات خارج منطقتنا العربية.

إنَّنا للأسف نرغب في استنساخ ما لدى غيرنا إما ولها به وعشقا وغراما وهياما، وإما جهلا، ولعل جائحة كورونا التي عصفت بالغرب والانتخابات التي جرت كشفت لنا حقائق منها أنه كفانا جلدا لذاتنا ودولنا وكفانا اتخاذ غيرنا قدوة ومهتدى ومقتدى.

وكفانا تعاميًا عن عوار غيرنا؟ كيف نشعُر بالقذى (الحلام) في بلداننا ولا نرى الجذع في بلدان غيرنا؟

إنَّ الدعوة لاستيراد نماذج من خارج منطقتنا لا يتناسب وبيئتنا وأعرافنا؛ فقد يكون عندهم من الحرية السب والشتم بينما عندنا السب والشتم من قلة الأدب عُرفا ومن تجاوز الشريعة الإسلامية والقانون.

وقد يكون الاستعراض بالسلاح المتنوع في الشوارع في غير بلداننا حرية، لكنه في بلداننا ترهيب وتخويف وقهر تحت وطأة السلاح ورصاص البندقية.

لا يُمكن استنساخ برلماناتنا بما لدى برلمانات الغرب؛ فقد رأينا كيف اتخذت تلك البرلمانات قرارات حاسمة وتم تجاهلها، ولم نر برلمانات حاكمت قامات وزعامات تسببت في سفك الدماء والحروب والفتن.