وفاء من الدرجة الرفيعة

عبدالله الفارسي

هناك مواقف إنسانية تجبرك على التَّوقف أمامها، والخشوع بين يديها وأحياناً تضطر إلى السجود فوق قدميها، إنها مواقف البشر الذين ارتفعوا بأنفسهم إلى الأعلى ولامست أرواحهم السحاب فغسلها بالنور والبياض، إنها مواقف المروءة والوفاء والصدق والحب، والتي يُقابلها مواقف النذالة والبذاءة والخيانة.

وفي الظروف الحياتية العرجاء المعوجة، تذهلك مواقف النقاء والسُّمو إنِّها كبقعة بيضاء ناصعة البياض في قماش شديد الحلكة والسواد إنِّها كلمعان نجم في سماء شاسعة مكفهرة بالظلام.

قبل أيام كنت أتابع برنامجا في "بي بي سي"، وعرضوا قصة عجيبة حكاية تهز المشاعر وتلهب الوجدان، أضطررت أن أقف من مقعدي وأنحني أمام التلفاز احتراماً لبطلة القصة، وابني الصغير مندهشا من تصرفي ودون أن يعي ما أفعل وكنت أسمعه يتمتم في نفسه: ماذا يفعل أبي المجنون!!

إنِّها قصة من فلسطين، فلسطين النضال والقوة والإصرار، فلسطين العناد والسهاد والأرق والوجع والألم والتمسك بالأرض حتى الموت والفناء، لذلك لم أندهش من هذه القصة فهي ليست غريبة على شعب سطَّر ومازال يُسطِّر ملاحم في الوفاء وروائع في الحب والتضحيات والبناء والبقاء والرثاء.

سأنقش لكم هذه القصة الرائعة والتي أجبرت قلمي على الكتابة ودفعت قريحتي على التسطير.

فتاة فلسطينية جميلة ذلك الجمال الفلسطيني الممزوج بالشموخ والرسوخ والأنفة، ذلك الجمال الفلسطيني المُلغم بالغرور والسرور والمُعبأ بالثبات والرسوخ، ذلك الجمال العابق بالنور والألق ونكهة الزيتون.

فتاة فلسطينية ملامحها كيافا، خدودها كعكا، ولون عينيها كشتاء نابلس، وفي جبهتها ألم غزة، وفي صدرها تناهيد القدس، ودموع الخليل، فتاة مُتعلمة مثقفة أبت الزواج ورفضت كل العروض وآثرت الوقوف الطويل والانتظار العصيب، فحين تنتظر المرأة يتوقف الزمن لديها وتتلف عقارب ساعتها، ففي فلسطين كل يُناضل بطريقته الخاصة.

قررت هذه المناضلة انتظار خطيبها المحكوم لثمانية عشر عاماً في السجون الإسرائيلية ضاربة عرض الحائط بالخوف والقلق دافنة لهيب الغريزة تحت سريرها كاتمة رغبتها في أحشاء صدرها صامدة في وجه السنين الطويلة العجاف القادمة.

فتاة في الثالثة والعشرين من عمرها تنتظر خطيبها ثمانية عشر عاماً تنتظر لحظة خروجه من السجن وهي لا تعلم كيف سيخرج هل سيخرج حياً أم ميتاً؟ وغالباً لا يخرج من السجون الإسرائيلية بعد ثمانية عشرة عاماً سوى الأموات وأنصاف الأحياء.

إنها غير متيقنة هل سيخرج خطيبها وقلبه يحمل ذات المشاعر التي دخل بها؛ فالسجن كالبحر الداخل فيه مفقود والخارج منه مولود. 18 عاماً من الأرق والهم والتفكير والمُعاناة والحزن والبكاء، كل شهر يمضي يجرف معه رحيق العمر وشباب الحياة وبلسمها، كل شهر ينتهي يقضي على خلايا الصحة ومكانزمات الهمة وإنزيمات الرغبة والنشاط.

216 شهرًا كاملاً وهي تنتظر خطيبها محتفظة له بحبها وصدقها ووفائها وجمالها العنيد الذي يرفض الترهل والاندثار بفعل قوة الوفاء وصدق المشاعر.

216 شهرا وهي تنتظر لحظة خروج خطيبها من معتقله لتبدأ معه الحياة وتتنفس بين يديه الوجود والصمود والعطاء.

ذهب عنها وعمرها ثلاثة وعشرين عاما، وعاد إليها وعمرها واحد وأربعين عامًا؛ أيُ حبٍ هذا الذي تحمله هذه المرأة الجميلة العظيمة الرائعة؛ أي صدق تملكه هذه الأنثى الحنونة الشفوقة. إنها تسجل ملحمة فلسطينية في الحب وصدق المشاعر والوفاء للحبيب. إنها منهج فلسطيني من مناهج الحب والتضحية والارتباط والتمسك بالأرض والبشر مهما كان الثمن فادحاً وغالياً.

شيء لا يُصدق، ما الذي يجبر فتاة بذلك الجمال وتلك الكاريزما على انتظار خطيبها 18عاما؟ ما الذي يجبر زهرة يانعة مُتفتحة أن تحرم أوراقها من القطر والضوء والضياء؟

إنها الحياة تعلمنا دروس الوفاء وقواعد الحب في زمن الخيانات والطعنات الغادرة، إنِّه درس من دروس الصدق يعلمنا بأن الإنسان هو المخلوق الذي يمكن أن يضرب أروع الأمثلة في الارتباط والوفاء والصبر والانتظار وتحمل الألم.

شكراً فلسطين، دائماً تضربي لنا نماذج في الكفاح والصبر، وشكراً أيتها الفلسطينية الشامخة، لقد ضربتِ لنا مثلاً في الوفاء ومنحتِنا أملا في الحياة وتفاؤلا كاد أن يكون مفقودا في البشر معدوما من المشاعر..

إن شعبًا ينتج نساء بهذه الصورة لا يُمكن أن يهزم ويستحيل أن يندثر أو يموت.