العرب وأمريكا

حاتم الطائي

◄ فترة حكم ترامب شهدت اضطرابات وتحولات جوهرية في السياسات الأمريكية

ترامب تسبب في "زلزال سياسي" فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والشرق الأوسط

آن الأوان لكي تمارس الولايات المتحدة سياسات تُنقذ العالم من أزماته

لحظات مليئة بالتَّرقب والانتظار شهدها العالم خلال الأيام القليلة الماضية، مع اشتعال السباق الانتخابي بين المرشح الجمهوري دونالد ترامب ومنافسه الديمقراطي جو بايدن، إلا أنَّ الأخير استطاع أن يحسم المُنافسة ليلة الأمس ويحصد 290 صوتاً حتى الآن من أصوات المجمع الانتخابي، متجاوزًا الرقم الذهبي المطلوب للفوز برئاسة الولايات المُتحدة الأمريكية.

هذه الانتخابات التي يُمكن القول بوضوح إنها أشرس انتخابات شهدتها أمريكا خلال عقود، كشفت عن العديد من الأمور التي ربما لم ينتبه لها البعض أو تعامل معها باستخفاف أو حتى خدعه النموذج الأمريكي القائم على إحداث الدهشة وصنع هالة إعلامية ضخمة في أنحاء العالم. فمنذ بداية المنافسة الانتخابية قبل نحو عام تقريباً، تصاعدت حدة الانقسام في الرأي بين الأمريكيين، وأجج كل طرف المنافسة بتصريحات وتصريحات مُضادة. كما جاءت هذه الانتخابات بعد 4 سنوات من حكم الرئيس ترامب، وهي الفترة التي شهدت اضطرابات عدة وتحولات جوهرية في السياسات الأمريكية داخلياً وخارجياً، لكن ما يعنينا نحن- العرب- السياسات الخارجية التي أفرزت مُتغيرات قلبت الموازين، لاسيما في منطقة الشرق الأوسط، التي تمثل أهمية بالنسبة لنا، باعتبارنا جزءا منها.

وكما كان لحكم ترامب على مدى سنواته الأربعة، تأثيرات على منطقتنا، سيكون لحكم جو بايدن تأثيرات أخرى، لكننا نأمل أن تكون مُختلفة كليًا عن سلفه ترامب. وبعيداً عن الحديث عن التغيرات الجذرية التي أحدثها ترامب بسبب سياساته في الشرق الأوسط ونزعته لخفض الدور الأمريكي في المنطقة، إلا أنَّ فوز بايدن يجب أن يدفع الدول العربية لاتخاذ خطوة مُهمة، من خلال الاتفاق على استراتيجية واضحة المعالم فيما يتعلَّق بالوضع في المنطقة العربية، ومستقبلها، وما تؤول إليه الأوضاع فيها، خاصة مع المتغيرات التي أحدثتها إدارة الرئيس ترامب. يتعين على دول الإقليم اتخاذ مجموعة من الإجراءات، أولها: التأكيد على أنَّ العلاقات مع الولايات المتحدة هي علاقات استراتيجية قائمة بين مؤسسات دولة راسخة، وليست علاقات شخصية تربط زعيماً بزعيم آخر، فخروج ترامب من المشهد السياسي الأمريكي لا ينبغي أن يُؤثر على مصالح الدول وعلاقاتها مع واشنطن، كما إن قدوم بايدن يجب أن يعني مزيدًا من التعاون على أسس من الاحترام والمصالح المُشتركة. ثانياً: ضمان حيادية الدور الأمريكي في الكثير من القضايا الإقليمية، لاسيما الأزمات التي عصفت بمنطقة الخليج والقضية الفلسطينية، والتوترات مع دول إقليمية، فضلاً عن ما تشهده بعض الدول من حروب أهلية أو صراعات داخلية مُسلحة، مثل سوريا واليمن وليبيا. فلقد شهدت فترة حكم ترامب زلزالاً سياسياً فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، كما إن غياب الدور الأمريكي وتراجعه في مناطق الصراع بالشرق الأوسط تسبب في هيمنة قوى إقليمية غير عربية، لم تقم- للأسف- هي الأخرى بدورها الحقيقي، وإنما استغلت الأزمات لخدمة أجندتها ورعاية تطلعاتها، سواء كانت توسعية على حساب قوى عربية ذات ثقل تاريخي أو اقتصادي، أو كانت رغبة في دعم طرف على حساب آخر.

والواقع يُثبت أنَّ العلاقات العربية الأمريكية هي علاقات استراتيجية طويلة الأمد، ولا يمكن ارتهانها لمتغيرات وقتية برحيل رئيس أو قدوم آخر؛ خاصة في مثل الظروف العالمية الآنية، فجميع الدول وجدت نفسها أمام مُنعطفات غير مسبوقة في ظل انتشار فيروس كورونا، وما سببه من تداعيات ألحقت الضرر البالغ بالجميع، دون استثناء، بما فيهم الولايات المتحدة، وهو ما يفرض على كل الدول وعلى رأسها أمريكا أن تؤسس لمرحلة جديدة من العلاقات الدولية القائمة على المشترك الإنساني وتبادل المصالح وخدمة الأهداف الثنائية، دون عجرفة من طرف على آخر، أو استغلال للظروف. فأزمة كورونا قد برهنت أنَّ الجميع تأثر بشدة، ولم يفرق الفيروس بين دولة غنية مُتقدمة وأخرى فقيرة متخلفة، بل إنَّ الإصابات والضحايا أعلى بكثير في ما يسمى بـ"دول العالم المتقدم".

لقد عانى العالم كثيرًا تحت حكم الرئيس ترامب، فعلى المستوى الداخلي تسبب في انقسام حاد في الرأي العام الأمريكي، الناجم عن الاستقطاب السياسي غير المسبوق، وللأسف هكذا دائماً تكون آلية حكم المحافظين الجُدد، المنتمين لأقصى التيار اليميني بسياساتهم الشعبوية، وما اختلاف الرؤساء اليمنيين سوى تغير في الأدوات، لكن الأهداف والرؤى ثابتة لا تتبدل، فقبل عقد تقريبًا من الزمن قالت كونداليزا رايس (وزيرة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس جورج بوش الابن) إنَّ سياستهم لا تستهدف حل الأزمات ولكن إداراتها!! وما أغربه من تعليق يعكس الفهم المُختل للأزمات حول العالم، ومنهجيتهم في الاستفادة من التناقضات والصراعات من أجل تشغيل الاقتصاد الأمريكي القائم في معظمه على مبيعات السلاح.

ولعلَّ خروج الرئيس ترامب من السلطة يُسهم بصورة أو أخرى في وأد التيار الشعبوي الذي لا تعنيه سوى مصالحه الذاتية، بأسلوب نرجسي وعنصري مُشين، وفي المُقابل نأمل أن يُؤسس الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن لنظام عالمي جديد قوامه المصالح الإنسانية وخدمة الشعوب على أساس من التعايش والتراحم، وليس فقط بيع السلاح وتأجيج الصراعات للهيمنة والنفوذ. ولنسأل أنفسنا: هل نجحت السياسات الشعبوية في بناء تحالف عالمي لمواجهة الأزمات وعلى رأسها أزمة كورونا؟ الإجابة: لا!! بل سعت الأنظمة الشعبوية إلى اتِّهام دول بعينها بأنها مصدر الفيروس!

لقد آن الأوان لكي تُمارس الولايات المُتحدة سياستها التي يفرضها عليها الواجب الأخلاقي؛ باعتبارها القوة العظمى الأولى في العالم، وصاحبة الحضارة الأمريكية التي نجحت في دعم تقدم البشرية بفضل ما تمكله من تكنولوجيات رائدة. آن الأوان لكي يتجلى البُعد الإنساني للحضارة الأمريكية "النموذج الأمريكي" أو "الحلم الأمريكي"، فتلك الحضارة ليست كحضارات العالم القديم، بل إنِّها نموذج خاص من التقدم البشري المادي والمعنوي، والرقي الأخلاقي، والانفتاح على الآخر، دون عنصرية أو شيفونية بغيضة.

نقطة أخيرة بقي أن نشير إليها في هذا السياق، وهي ما كشفت عنه هذه الانتخابات- وكذلك فترة حكم الرئيس ترامب، من قوة الآلة الإعلامية الأمريكية، وعلى رأسها شبكة "CNN"، التي لم تتوان للحظة في كشف أخطاء الرئيس ترامب، وتسليط الضوء على الكثير من السلبيات التي شابت فترة حكمه، والأهم من ذلك كله، دورها النشيط للغاية في تغطية الانتخابات الأمريكية، على الرغم مما مارسه ترامب من ضغوط هائلة على وسائل الإعلام واتهاماته المُتكررة لهم بـ"الكذب" و"التضليل" و"تزييف الأخبار"، بل ووصل به الأمر لطرد مُراسلين أو رفض الحديث إليهم! لكن في المُقابل، برهن الإعلام الأمريكي قوته، وأنه القوة الناعمة الحقيقية للولايات المتحدة، فالكثير من العُمانيين- حتى في القرى البعيدة- حرصوا على مُتابعة هذه الانتخابات، سواء من خلال الإعلام الأمريكي، أو من الإعلام العُماني- وأخص جريدة الرؤية- التي كانت تنقل عن الإعلام الأمريكي.

وختامًا.. إنَّ العرب وشعوب الشرق الأوسط، بل والشعوب المُختلفة في أنحاء العالم، لتنظر إلى فترة حكم الرئيس ترامب باعتبارها واحدة من الفترات الرئاسية المُتقلبة، التي تسببت في تغيرات جذرية، فيما يحدوها الأمل أن ينجح الرئيس المنتخب جو بايدن في إعادة الأمور إلى نصابها من خلال استعادة "النموذج الحضاري الأمريكي" القائم على أسس الحرية والعدالة وحقوق الإنسان والمصالح المشتركة.