رحلة أخيرة لـ"طائر دون جناح"

 

مسعود الحمداني

Samawat2004@live.com

 

إلى روح الصديق الطيَّار عبدالله بن خميس بن عبيد الفزاري، الذي رحل عن عالمنا، أمس الأول (الجمعة).. إنّا لله وإنّا إليه راجعون

يأبى العام إلا أن يقتنص أجمل أشيائنا، يذهب بها بعيدا حيث النجوم، يسري بها ليلا، ويدّسها بين طيّات الغيوم، هناك حيث لا شيء غير المطر، وحبيبات البياض، تغيب شمس اليوم وتغيب معها أرواحا نحبّها حد الروح، يتوالى رحيلهم كشجرة تتساقط وريقاتها، وتجف جذورها، وتصير مجرد تراب أو قطعة من ثلج، أولئك الذين كانوا قريبين منا، يَملأون قلوبنا ضحكاتٍ تتطاير كحمام زاجل تعبر محيطات اليأس، وتعود محملة بالبشارات أو الحسرات.

وفي مساء يوم جمعة حزين، ترجَّل أحد الذين ركبوا السحاب من على حصانه، فجأة دون مقدمات، رحل وترك لنا بضع رسائل قصيرة، وألوانا من الحب، والضحكات الصامتة، لم أجد بُدًّا من تأبين رحيلٍ عادي لصديق غير عادي، شاركني لحظاته وضجيجه وهدوءه، غيّبته مهنته كثيرا عن الأرض، لكنه ظل معلّقا بقلبه وحلمه بمن يحب، ووضع في راحلته الكثير من الإلفة، والمحبة، وسار بهدوء في غابة الحياة الموحشة دون اتجاه، لم يكن سوى عاشق للحياة، وعاشق لابتسامة تتوارى خلف حجاب السماء، وروح شفيفة تعشق الارتحال.

هذا عام سيبقى محفورا في ذاكرة الكثيرين، أولئك الذين فقدوا أحباءهم، وأهليهم دون إنذار، أولئك الذين صحبوا الحزن، وتوارثوا المآسي، ونزفوا الدمع، واختبأوا خلف الروح، أولئك الذين أشعلوا الشموع القاتمة في صحراء الوحشة، وعلى قارعات القلوب الفارغة، أولئك الذين أوقدوا نجومهم على جبال الوحدة، وزاحموا الراحلين، ولم تغفر لهم تضرعاتهم الخفية ليكونوا بمأمن من الموت، ها هم يتساقطون واحدا تلو الآخر، ويبتعدون عنا حيث لا مكان ولا زمان ولا صحبة.

يا لغرابة السنين، حين يرحل أحباؤنا دون كلمة وداع، ودون نظرة أخيرة، ودون جنازة، ودون صلاة تليق بهم، ودون كلمة عزاء، يا لها من حياة تافهة، لا تستحق كل هذا العناء، وهذا الجري واللهاث خلف ملذاتها؛ حيث لا يبقى سوى الرماد، وبضع خطوات نحو القبر، يرحلون عنا دون أن نسمع أصواتهم، ودون أن نرى بسماتهم، ودون أن نتوضأ بشموسهم الغائبة، يتوارون عنا تحت التراب، ولا نجد سوى الدعاء رسالة لهم علَّها تصل عوالمهم المجهولة، أو لعلنا نطفئ أشواقنا للُقياهم.

وداعٌ آخر، وليس أخيرًا لعزيزٍ مَنعَتنا عن رؤيته الأيام، ولم تفرّقنا رغم ذلك زحمة الذكريات، فحين تغيب كل الأجساد تبقى الذاكرة مشتعلة بلحظات الصفاء والغضب، والألم والفرح، والحب والفراق، تتوقد في دواخلنا كمصباح يضيء عتمة القلب الصدئ، وتشعل قناديل المحبة، وشموع الروح، ونحن بين هذا وذاك نتأرجح كأيام ملّتها الأيام، وباتت على شفا رحلة أخرى في عالم الغيب؛ حيث لا يعود أحد، ولا يمسك بأيدينا أحد، ولا يتذكرنا سوى المخلصين من الأحياء.

رحل الصديق العزيز عبدالله ساخرا من الحياة، محلّقا بين السماء والأرض، تاركا خلفه (جهينة)، تلك التي أزهرت ذات حنين، ورأته في سديم القلب يواسي حزنها، ويلوّح لها بيديه مودّعا، ومبتسما، كما كان يفعل كل رحيل، غير أن الرحلة هذه المرة طويلة حد الغيب، وحد الألم، ولن يكون (عندها الخبر اليقين) عن موعد الإقلاع الأخير، لأن تذاكر العودة قد نفدت، ولم يبق مدرج للهبوط تحط عليه طائرة أبيها المحمّلة بالزهور والقُبل، فرحلته هذه المرة إلى عالم مختلف، لكنه قد يكون عالما أفضل من عالمنا، وصحبة خيرا من صحبتنا، وعيوننا تترقرق بدمع اللقاء عند مليكٍ مقتدر.

رحم الله الصديق الطيّار عبدالله ورحمه وألهم أهله وذويه الصبر والسلوان، ورحم كل روح رحلت عن عالمنا دون وداع، أو كلمة، أو صلاة.. وإنَّا لله وإنا إليه راجعون.