يوسف بن حمد البلوشي
تمر السلطنة بظروف استثنائية على الصعيد المحلي والعالمي، ولا جدال أننا الآن وأكثر من أيِّ وقت مضى نحتاج التركيز على إدارة مُشكلة الباحثين عن عمل والحصول على النقد الأجنبي وخاصة في ظل الواقع الجديد الذي فرضته جائحة كورونا وتداعياتها على تدهور أسعار النفط وانحسار الإيرادات النفطية التي قوّضت قدرة الحكومة المالية على خلق فرص عمل لأعداد الباحثين عن عمل المُتزايدة من أبناء السلطنة في القطاع الحكومي. فضلاً عن تواضع قدرات القطاع الخاص الاستيعابية.
أمام هذا التأزم قد يتم النظر إلى قطاعاتنا التقليدية كأحد بدائل الحلول الإنتاجية وذلك من خلال فلسفة تنموية جديدة تحقق العديد من الأهداف التنموية كخلق فرص عمل مُنتجة، تنويع القاعدة الإنتاجية، تحقيق الأمن الغذائي، تنمية المحافظات، تعظيم الاستفادة من البنية الأساسية من شبكة طرق وموانئ ومطارات وتفعيل دور سفاراتنا في الخارج لفتح الأسواق وزيادة التبادل التجاري وجذب الاستثمار. وتحقيق التحول المنشود في رؤية عُمان 2040 إلى اقتصاد أساسه الاستثمار والإنتاج والتصنيع.
وهذا الحل يحتاج إلى إعادة انبثاق قطاعي الزراعة والثروة السمكية بشكل تجاري وتنموي ويستوجب استيعاب التحديات المُتعلقة بالباحثين عن عمل والتحديات المرتبطة بالدين العام وصعوبة الحصول على النقد الأجنبي الذي لا يتأتى إلا بالتصدير وفتح المجال للاستثمار الأجنبي. إضافة إلى تغيير القناعات البالية والقيود شبه الوهمية والمتعلقة بندرة المياه والمناخ وخاصة في ظل التكنولوجيا والحلول المتوفرة. ذلك أنَّ الحديث هنا عن مشاريع زراعية وسمكية وطنية عملاقة موجهة للتصنيع والتصدير وليس الاكتفاء بتلبية الطلب المحلي. وعن مزارع نموذجية لا تقل الواحدة منها عن 200 فدان لكل منتج.
إني على يقين - وأنا من أبناء سهل الباطنة الخصيب- أننا نستطيع أن نخصص مزارع نموذجية على سبيل المثال 200 فدان لزراعة الليمون و200 فدان لزراعة الموز و200 فدان لزراعة الخضروات وهكذا .. على أن يلحق بكل مزرعة مركز تجميع وتصفية وتجهيز للتصدير من خلال سلاسل التوريدات الواضحة، وفي عُمان لا تنقصنا المساحات الشاسعة لذلك. وبالنسبة لقطاع الثروة السمكية وعلى سبيل المثال في ولايات محافظة الوسطى يمكننا بناء قرى عملاقة للصيادين مجهزة بمتطلبات الحياة الكريمة وتستوعب أعداداً كبيرة من الشباب يعملون بنظام الفترات المتلاحقة لتعظيم الاستفادة من الاستثمارات الرأسمالية التي ستضخ في سفن الصيد المتطورة بحيث تعمل على مدار الساعة. ويلحق بهذه القرى مراكز لتجميع منتج الصيد وتجهيزه ونقله وتصديره. ولنا أن نتخيل الآلاف من العمانيين الذين سيعملون في هذين القطاعين والقفزات الكبيرة في الناتج المحلي لهذين القطاعين وتحريك الموانئ والنقل مع جهود السفارات التي تفتح لنا الأسواق، والبنوك التي تشترك في تمويل هذه المشاريع، ومراكز الابتكار التي تبدع في ابتكار أفضل التكنولوجيا لإدارة المياه والمحاصيل وابتكار الأساليب المتطورة للصيد وما يرتبط بكل ذلك من صناعات وأنشطة تجارية مباشرة وغير مُباشرة.
ولا يحتاج البدء في هذه المشاريع إلى موازنات ضخمة ولا تحضيرات قياسية كتلك التي تعودت عليها الشركات الحكومية وإنما يحتاج إلى شغف الإنجاز وتحقيق حلم كل شاب عُماني بوظيفة منتجة ودخل يضمن له الحياة الكريمة. ولن يعني ذلك بأي شكل من الأشكال تخلفنا عن مسار الحداثة وتطبيقات الثورات الصناعية بل تهيئة عملية لها بتوظيفها في هذه المزارع والقرى بشكل كبير. كما لا يعني ذلك أننا نتخلى عن طموحاتنا في بناء صناعات دقيقة ومعقدة ومتقدمة، ولكن ما نستعرضه ما هو إلا تدشين لثقافة العمل الإنتاجي التي ينبغي أن تبدأ من قطاعاتنا التقليدية. ولنتفق أن استيعاب الباحثين عن العمل في القطاع الحكومي يعني هدراً للطاقات وارتفاعاً في فاتورة الرواتب دون زيادة للإنتاج فالحكومة ليست هي المكان الأنسب للإنتاج والاستثمار والتصدير.
إنَّ الدلائل كلها تشير إلى أنَّ المحافظة على نفس المستوى المعيشي ومواصلة النمو سيكون أصعب في المرحلة القادمة ويتطلب الكثير من الجهد وتغيير الكثير من أساليب العمل الحالية بما يتماشي مع المتغيرات وعلى رأسها أزمة تراجع أسعار النفط- تشير المُعطيات إلى أنها ليست أزمة آنيّة - وضرورة الاستعداد لعصر ما بعد النفط والذي يتطلب مشاركة أوسع من المُجتمع والقطاع الخاص لتحمل أعباء المرحلة التنموية القادمة.
إنَّ تأخرنا في تطبيق الحلول الإنتاجية منذ فترة طويلة هو ما وصل بنا إلى مثل هذه الخيارات الصعبة وستكون أصعب في المرحلة القادمة إذا ما استمر مفهوم (الأمور طيبة) وإلقاء اللوم على كورونا وأخواتها. في حين أنَّ مشاكلنا الاقتصادية والمالية تتعمق وتتعقد وتتزايد أعداد الباحثين عن عمل وتضعف وتغلق شركاتنا في القطاع الخاص. ووقتها لا نلوم إلا أنفسنا إذا تأخرنا في اتخاذ الخطوات العملية المطلوبة وواصلنا الهروب إلى الأمام نحو نهايات أكثر صعوبة.