أمريكا واقتراب لحظة الحقيقة

 

 

محمد بن سالم البطاشي

تعيشُ الأمم لحظات مفصلية في حياتها، ومنعطفات حادة في مسيرتها، والتاريخ حافل بهذه اللحظات والمنعطفات، وهي من طبيعة التدافع بين الطبقات والأفكار والقناعات والمصالح بطبيعة الحال داخل المجتمعات على مر الأزمنة والعصور.

بدأت بالأمس الانتخابات الأمريكية؛ وللمرة الأولى في تاريخها يقف العالم والأمريكيون معهم على أطراف أصابعهم منتظرين نتيجتها؛ فعلى الصعيد العالمي فإن هذه الانتخابات تحظى بمتابعة واهتمام شرائح وقطاعات واسعة للغاية من شعوب العالم بخلاف الانتخابات السابقة التي كانت تقتصر متابعتها على النخبة من السياسيين والصحفيين والمحللين السياسيين والاقتصاديين ومراكز البحوث والدراسات وبعض المثقفين والمتابعين للشؤون العامة، ذلك أن سياسات الرئيس دونالد ترامب الاقتصادية والسياسية قد أثرت بشكل مباشر أو غير مباشر على دول العالم وشعوبه قاطبة، ونحن هنا في دول الخليج نالنا شيء ليس باليسير من ارتدادات تلك السياسة؛ فعلى سبيل المثال فقط: فقد عانينا الأمرَّيْن جراء سياسته القاضية بتقديم الدعم المطلق لشركات إنتاج الزيت الصخري وسماح إدارته بالتنقيب عن النفط في مناطق المحميات الطبيعية؛ مما سبب تخمة شديدة في الأسواق تهاوت على إثرها أسعار النفط بصورة غير مسبوقة وكانت نتيجة ذلك أن سجلت ميزانيات دولنا عجوزات قياسية مقلقة للغاية.

أما على الصعيد العالمي؛ فقد كانت سياسات العقوبات الاقتصادية وسياسات الحماية مفردات متلازمة طبعت عهد إدارته، وكانت المواجهة الحامية بين إدارته والصين اقتصاديا وسياسيا أحد المرتكزات الأساسية للسياسة الأمريكية، وقد أثر ذلك بطبيعة الحال على الاقتصاد العالمي وحركة تبادل السلع مما أفرز -إلى جانب عوامل أخرى- ركودا اقتصاديا خطيرا أثر على شعوب العالم عامة وأبناء دول العالم الثالث خاصة، وتحديدا تلك الدول المعتمدة على النفط كمصدر رئيس للدخل، كما تعثرت علاقات الولايات المتحدة مع أوروبا ودول حلف الناتو وروسيا ودول أمريكا الجنوبية وكندا بدرجة أقل، وانسحبت الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ؛ حيث تجاهل الرئيس ترامب حقيقة التغير المناخي وتأثيراته، مفضلا مراعاة مصالح الشركات الرأسمالية الكبرى، كما تسبب انسحاب الإدارة الأمريكية من الاتفاق النووي الموقع بين ما أصبح يعرف بـ(واحد + خمسة) وإيران في زيادة التوتر في منطقة الخليج؛ مما أثر كثيرا على حركة التجارة وأسعار السلع نتيجة لزيادة رسوم التأمين.

أمَّا على صعيد الداخل الأمريكي، فإن سياسات إدارة الرئيس ترامب الفجائية وغير المتوقعة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والصحية قد أربكت المواطن الأمريكي، وسبَّبت للاقتصاد هزات عنيفة وانتشرت المظاهرات والاحتجاجات الرافضة لتلك السياسات في كثير من المدن الأمريكية، وأدت إلى نشوب الفوضى وأعمال العنف التي اتخذت طابعا عنصريا أحيانا نتيجة أخطاء ارتكبتها قوات الأمن. وجاءت جائحة انتشار فيروس كورونا (كوفيد 19) وطريقة تعامل الرئيس ترامب وإدارته معها، وما خلفته ولا تزال تخلفه هذه الجائحة على الفرد والاقتصاد الأمريكييْن لتزيد من متاعب هذه الإدارة.

وعلى وقع هذه الخلفية من الأحداث والسياسات، يذهب الناخب الأمريكي يوم الثالث من نوفمبر إلى مراكز الاقتراع أو أدلى بصوته عبر البريد، لاختيار الرئيس القادم للولايات المتحدة وهي الانتخابات رقم 59 التي تجرى كل أربع سنوات، كما تجرى بالتزامن معها انتخابات مجلس النواب، ومجلس الشيوخ، ضمن عدة انتخابات على مستوى الولايات والمستوى المحلي.

الرئيس الأمريكي الحالي هو الرئيس الـ45 للولايات المتحدة وهو من الحزب الجمهوري وينافسه على سدة الرئاسة مرشح الحزب الديمقراطي جو بايدن نائب الرئيس السابق باراك أوباما، ويبدو أن مرشحي كلا الحزبين نالا حظوظا متقاربة في استطلاعات الرأي؛ مما يشير إلى حجم الاستقطاب وعمق الانقسام  في المجتمع الأمريكي اتجاه برنامجين مختلفين ورؤيتين متوازيتين؛ مما يُتوقع معه إقبال غير مسبوق على التصويت في هذه الانتخابات، وإلى هنا فإنَّ الأمور تبدو عادية تماما في مثل هذه المناسبات، لكن تصريحات للرئيس ترامب في عدد من المؤتمرات الانتخابية حرَّكت الكوامن وأثارت المخاوف؛ حيث شكك بقوة في مدى نزاهة التصويت عبر البريد، واعتبر نفسه فائزا لا محالة إذا كانت تلك الانتخابات نزيهة، وإنه بخلاف ذلك فإن النتيجة قد زورت وتم سرقة الفوز منه ومن حزبه، وقد أثارت تلك التصريحات استغراب الكثيرين ونشرت المخاوف إلى حد الرعب في نفوس الأمريكيين، وسخنت الأجواء إلى حد كبير، وسط ترقب وحذر شديدين مما سيحدث يوم الانتخابات وبعدها، حتى إعلان النتائج، حيث اعتبر كثير من الأمريكيين هذه التصريحات الاستباقية وغيرها من التصرفات التي تشي بشيء غير سار يبيت بليل إذا لم تجرِ الرياح بما تشتهي سفينة الرئيس، وإن احتمال ظهور مظاهر مسلحة أمام مراكز الاقتراع؛ وبالتالي احتمالية تعرض البعض للوعيد والإكراه والترهيب أو حتى  القتل بات أمرا واردا جدا، وتتغذى هذه المخاوف من سوابق للرئيس في مهاجمة وكيل الاتهامات للمؤسسات الأمريكية التي اختلفت معه، حدث ذلك مع وكالة المخابرات الأمريكية والإف.بي.آي، إضافة لخلافاته العديدة مع عدد من أركان حكومته الذين اعترضوا على سياساته الداخلية والخارجية، ومما لا شك فيه أن هذه الفرضية تقض مضاجع الشعب الأمريكي، حيث إن أي رفض لنتائج الانتخابات من قبل أي من المرشحين سيؤجج الوضع بدرجة خطيرة وسيؤدي إلى صدامات في شوارع المدن الكبرى وستمتد إلى مناطق واسعة، خصوصا تلك التي يسكن فيها السود والأقليات العرقية الأخرى، وحتى لو أصدرت المحكمة الفيدرالية العليا حكمها بشرعية ونزاهة التصويت؛ وبالتالي شرعية النتائج التي أفرزتها، فإنَّ هناك شكوكا جدية تراود قطاع واسع من الأمريكيين بأن الرئيس ترامب سيقبل  بها، رغم أنه قد عين ثلاثة من أعضائها السبعة.

وتكمن خطورة الوضع في الكميات الهائلة من السلاح التي بأيدي الأمريكيين وتلك المكدسة في مخازن المتاجر المنتشرة في كل بقعة من الولايات المتحدة، وللإشارة إلى كارثية الوضع -في حال خروجه عن السيطرة- يكفي إلقاء نظرة خاطفة على إحصائيات السلاح لدى الشعب الأمريكي، فقد قدر مشروع الدراسة الإستقصائية  للأسلحة الصغيرة (SAS) ومقره في سويسرا، بأن عددَ الأسلحة النارية المتاحة للأمريكيين تقدر بنحو 393 مليون سلاح، وهو رقم مخيف بكل المقاييس.

ويبقى القول إنَّ العالم -شعوبا وحكومات- يتابعون هذه الانتخابات المثيرة بكل شغف واهتمام، والكثير يتمنى أن لا تؤول الأوضاع بعد ذلك إلى تلك المآلات التي يتخوف البعض منها، ذلك أن الولايات المتحدة باعتبارها القوة الأعظم في العالم فهي محط أنظار العالم وهي تمثل أرض الحرية والسعادة والآمال والأحلام لدى كثير من الناس حول العالم؛ لذا فإنَّ استقرارها وازدهارها يهم العالم أجمع.

تعليق عبر الفيس بوك