ناجي بن جمعة البلوشي
إذا كانت نهاية كل أمة مُترتبة على أثر ذلك الفساد الذي بدايته مُتسبب فيها واحد من النَّاس ليعم ويشمل الأمة جميعها فكان لابد من القضاء على ذاك الفساد في أوله وبداياته الأولى تفادياً لكل ما تسببه تلك البذرة الخبيثة في المُجتمع، فهناك أمم عربية نشطت نهضتها منذ العشرينيات وحتى الأربعينيات والخمسينيات من القرن المنصرم لكنها للأسف هاهي اليوم تندثر من معنى النهضة إلى الانحطاط والغرق في الفساد المُجتمعي المُشتمل على الشعوب الفاسدة والدولة الفاسدة، ومما لا يخفى على أحد في تاريخ الدول كيف كانت دول مثل اليمن والعراق وفلسطين ولبنان وكيف هي الآن، ولأننا أجبنا على أحد الأسئلة الثلاثة المعنية بزمن نشأة تلك التصرفات فإننا ملتزمون بالإجابة على السؤالين الآخرين اللذين كتبناهما في مقالنا الأول الذي مفاده متى بدأت تلك التصرفات؟ وكيف ترعرعت؟
وللإجابة على هذين السؤالين لابد لنا من تتبع نشأة النهضة فيها، فعندما تتكون نهضة ما في دولة ما يعني ذلك بأن حاكماً جديداً تولى دفة الحكم ومن بين طموحاته صناعة التاريخ من أثر ما يُقدمه من نهضة وتنمية مجتمعية غير مسبوقة تختلف باختلاف أنواع وأشكال معاني الحكم كنظامها أو صبغة متوليها الشخصية فمن أنواع تلك الأنظمة النظام الملكي أو الجمهوري أو الأصولي أو المستبد ...، أما أنواع شكل وصبغة أطباع الشخصية الحاكمة فتختلف باختلاف الشخصية ذاتها فهناك الإنسان المدني والإنسان العسكري والرجل الديني والرجل القومي الثائر... إلخ، ومع دمج خليط نوع الشخصية بشكل النظام الحاكم تتكون الشعوب على أنماط مختلفة تختلف فيها تركيبة المجتمعات وبها يتكون نمط المجتمع وتكوينه فالمجتمع الملكي مع الحاكم المدني دائماً ما يكون مجتمعاً أكثر هدوءًا وتقاربًا مع الحاكم، لكنه أقل تنظيماً والتزاماً كما أن المجتمع الملكي مع الحاكم المستبد أكثر صمتاً ونفورًا من الحاكم لكنه أكثر تنظيماً والتزاماً وتقيداً بينما المجتمع الجمهوري مع الحاكم المدني يكون أكثر فوضى وأقل تنظيماً وتقيدا بل ويكون أكثر ضجيجا وفرقعة وهو أبعد تقارباً من الحاكم، أما المجتمع الجمهوري مع الحاكم المستبد فيكون أقل تنظيما وأصعب استجابة وأقل وفاء وأبعد تقارباً من الحاكم، هذه من بين الأمثلة لكنها لا تنطبق على كل المجتمعات على الإطلاق بسبب قياس ما تشكلت عليه المجتمعات أنفسها من عهد إلى عهد آخر ومن نظام إلى نظام آخر مما يخلق فيها الخليط الإنساني الذي لايُمكن أن نقيده في واحد من بين ما ذكرناه.
ولأنَّ الشخصية الحاكمة تحمل معها تنظيماً خاصاً بالمجتمعات ولها تأثيرها الخاص بنمط كل مُجتمع فالشخصية الدينية مثلاً تحصل على التقديس والغلو المبالغ فيه في المجتمعات الأصولية حتى وإن لم تقم بأيِّ تغيير في نهضة ذلك المجتمع، أما الشخصية العسكرية فإنِّها تخلق الخوف والارتباك في المجتمعات وهي تصنع التنظيم والتقيد لكنها تحصد في عادتها عدم المكاشفة والدفع بالحقيقة لمخافة العواقب، كما إنِّ الحال في الشخصية المستبدة أكثر وأكبر وأعظم. الشخصية المدنية تحصل على قلة التقيد والانتظام وزيادة اللامبالاة لكنها تحظى بالحب والتعاطف المجتمعي. وهناك شخصيات لها تأثيرها الخاص الذي لا يمكن لنا أن ندرجه هنا فهي مميزة بذاتها لا بما تتصف به في المجتمع، لذلك فإنِّ لكل شخصية ونظام صدى معين يؤثر به في المجتمع الذي يقوم عليه ذلك الحكم.
مجتمعات الدول العربية حصلت على أنواع مُختلفة من الأنظمة والشخصيات الحاكمة لذا تجدها مكونة من خليط الإنسان الذي تراكمت عليه التجارب، فالذين كانت تحكمهم شخصية مستبدة تراهم في رخو إنساني مقابل الواجبات عندما تتولاهم شخصية مدنية، كما إن الذين كانوا في نظام ملكي دافئ تراهم اليوم متعصبين في نظام تكثر فيه الفرقعات والتذمر وشحن النفوس وتبغيظها للحياة وهم في انتقاد دائم لكل شيء هذا لاعتقادهم بأنهم يحكمون ويتولون دفة الحكم كونهم جمهور. وإذا أردنا أن نقيس كل مجتمع بين ما كان عليه وبين ما هو الآن عليه فنقيسه بنفس نمط الشخصية الفردية، فالدولة التي كانت ملكية بالأمس نستقرؤها بحكمها اليوم بعد أن سادها الحكم العسكري ثم الحكم العسكري المستبد ثم الحكم المدني وهو ما يعني الفساد والبعد عن الواجبات وهذا انتقام طبيعي من تلك الشخصية، كما أنَّ الدولة التي كانت ملكية هي اليوم في معمعة الانتقادات وعدم الانتظام الجمهوري مما يسبب الفوضى التي تعني الفساد وهذا بسبب القناعة الشخصية في حصول كل فرد على حكم ذاتي بعد أن كان الحكم في يد الملك.
لكن هذا الحال كان مختلفاً في دول أخرى كدول أوروبا التي فور تطورها وتطور نهضتها استبدلت كل منظوماتها وتأثيرات شخصيات حكامها بمنظومة القانون الذي لا يتوقف بحدود غير حدود القانون وحده، لذلك فإنَّ شخصية الإنسان الأوروبي مختلفة عن شخصية الإنسان العربي فهي تُؤمن بالقانون ولا تؤمن بالشخصية الحاكمة أو بنوعية النظام الحاكم، فالدول ذات الأنظمة الملكية والملك لا تختلف عن دولة الجمهورية والرئيس المنتخب وهو ما يعني أنَّ تلك الأنظمة والشخصيات لا تأثير لها سوى الانتماء الوطني والتاريخي، أما غير ذلك فالقانون حكم للجميع، ولأنهم آمنوا بأنه عند غياب ذلك القانون تترعرع كل أنواع الفساد في المجتمعات لذا هم تمسكوا بالقانون، فالمجتمعات أياً كانت تركيبتها المجتمعية تطغى عليها كل أنواع الفساد فالمجتمع الأصولي دائماً ما يكون الديني فيه فوق السلطة، أما المجتمع العسكري فدائماً ما يكون رجال العسكر هم فوق السلطة وهكذا في كل نوع من أنواع المجتمعات، وباعتقادي هو ما أخَّر الدول العربية عن التقدم الذي يظنه البعض قياساً بالزمن لا بالأنظمة، لكنه بتلك الأنظمة التي لم تسلم السلطة للقانون وظلت على رأس كل شيء.