ثرثرة فوق الحصير

 

عبدالله الفارسي

"إذا صادف وأمطرت السماء لوزا أو جوزا فلا تنسى أن تفتح فمك".
ذكرني المقال المُميز للأخت الكاتبة المُميزة مدرين المكتومية "اللحظات الصعبة وألم النسيان"، بالحظ العاثر، ووجع الفشل والخسران، فثرثرت فوق الحصير طلباً للسلوى، وسعياً للنسيان.
السطر الأول:
ربما لن تصدقوا ما سأسطره لكم هنا، فهناك من الغرائب والعجائب ما يُضحك، وأحياناً يذرف الدمع من عينك من شدة الضحك فتدخلك عنوة في نطاق المقولة الشهيرة "شر البلية ما يضحك"!
أنا لا أعتبر نفسي من فئة التُعساء، ولا أصنف نفسي من جماعة النحساء، كذلك لا أنتمي مطلقاً إلى طائفة السُعداء، لكن حين أراقب ما يحدث معي أضطر لأن أضحك، وأؤكد لنفسي أنني ربما أكون من عباد الله غير المحظوظين، لأنَّ للمحظوظ علامات وإشارات يهتدي بها، تظهر له في طرقات الحياة، تضيء له من بعيد، ويصطدم بها في الأماكن والأزقة، تضاحكه،. وتغازله، وتدغدغه وتتبعه وتتمرغ فوق قدميه كجرو مطيع وأليف، فالتوفيق في أمور الحياة، ومصادفة علامات مُضيئة وإشارات خضراء منيرة، وزهور بيضاء جميلة، يجعل الإنسان يشعر بالتفاؤل، ويستشعر  الأمل، ويتمتم بينه وبين نفسه كم أنا محظوظ في هذه الحياة.
كما أنه للنحاسة إشارات واضحة، وعلامات ظاهرة، يتعثر بها المنحوس طوال حياته، ويصطدم بها خلال ليله، وأثناء نهاره، لذلك جاء المثل المصري أو العراقي الشهير "المنحوس منحوس ولو حطو على رأسه فانوس"! فكثير من الفوانيس والمصابيح التي وضعتها فوق رأسي لأجل أن تُنير لي هذا الطريق المظلم وتزيل عني هذه الأحجار والأخشاب التي تعترض مسيري وتطمر تلك الحفر المتربصة بي، ولكن للأسف لم تقدم لي تلك الفوانيس سوى ثقل الرأس والوجع والصداع ولم تهدني تلك المصابيح سوى مزيد من الظلام ومزيد من الحلكة والسواد، فواصلت حياتي الباسلة أسقط من حفرة إلى حفرة، وظللت طوال سيرتي المجيدة أتعثر واتشقلب من صخرة إلى صخرة.
أظنكم سمعتم بالمثل الجميل الذي يقول: "أعطني حظا وارمني في البحر"، فالمحظوظ لا يحتاج إلى مهارة في السباحة ولا شطارة في الطفو، الحظ فقط يُحقق له العجائب، ويجلب له الغنائم، ويوصله إلى بر السلام والأمان.
لذلك أنا أهمس وأوسوس لنفسي طوال الوقت، وأحيانا أصرخ بكل قوتي: كم أنا منحوس متعوس!
والمذهل في قضية حظي العاثر أنني حتى في البطيخ لم أخلو من النحاسة، ولم أنجو من الفشل والإخفاق والتعاسة، لم يسبق لي منذ تعرفت على البطيخ، وعرفني وعرفته واشتهاني واشتهيته، لم يسبق لي أن اشتريت بطيخة لذيذة، دائماً اشترى البطيخ السيئ، دائماً اختار البطيخة القبيحة، دائماً تتوجه عيني إلى البطيخة الماكرة، وتنطلق أصابعي لتهبش البطيخة السيئة الرديئة!! حتى زوجتي المسكينة الطيبة يئست مني، وقالت: أرجوك لا تشتري لنا بطيخًا، ولا تدخله في بيتنا، لا نريد شيئاً، سنأكل البطيخ في الجنة!
ذات مرة اشتريت بطيخة حمراء، بعد أن عاينت بطنها، وفحصتها، وتأكدت من جمال لونها، وإحمرار داخلها. فرحت بها أيما فرح، وابتهجت بها أيما ابتهاج، وأخذت أقذفها في الهواء والتقطها بالأحضان، وقلت لنفسي ها هو النحس قد أنجلى، وهذا هو التعس قد انقضى وانتهى. فحملت بطيختي الحبيبة أهرول بها إلى داري البعيدة، فوضعتها في ثلاجتي الجديدة، وجلست أنتظرها حتى تبرد، وتتحول إلى فاكهة إستوائية منعشة باردة شهية ولذيذة. وبعد ساعة أو أقل، حملت سكيني، وأخرجت بطيختي، وقطعتها أجزاء صغيرة وأشكال جميلة، فبهرني لونها، وسال لعابي من جمالها!! قطعتها، وناديت على عائلتي: "هلم أيُها الأحبة، بطيخة باردة، لذيذة"، فتكدسنا حولها تكدس الفقراء حول صحنهم، واجتمعنا عليها اجتماع الجياع على قصعتهم.
يالها من مُناسبة، لأول مرة في حياتي أحظى ببطيخة كبيرة سمينة، باطنها حمراء، فاقع لونها تسر الناظرين وتبهج الجالسين، ولكن، كما قلت لكم المتعوس متعوس ولو حطوا على رأسه فانوس!! فقد كانت بطيخة سيئة، تحمل مرارة، ولا تجود بسكر، لقد كانت جميلة المنظر سيئة المخبر، كانت كخضراء الدمن، كانت، كالمرأة الجميلة سيئة الخلق قبيحة الطباع، كانت كالمُنافق المراوغ، حلو الوجه طيب اللسان، خبيث القلب أسود الفؤاد. ترك الجميع بطيختي وانسحبوا من أمامها، فجمعتها في كيسها، ورميتها من فورها.
كم أنت قاس عليَّ أيُها البطيخ!!
السطر الثاني: لا أدري لماذا تعرفني الإشارة الحمراء وتحترمني كثيرًا، وتعشقني عشقاً عجيباً. لا أتذكر منذ نعومة أظفاري، ومنذ بدأت أتعلم ركوب السيارة، وربط الحزام ومعرفة المواقف وتمييز الخطوط والمسارات بأنني صادفت إشارة خضراء أمامي، دائمًا تستقبلني الإشارة الحمراء في كل طرقاتي، ضاحكة، مُستبشرة في وجهي، تطلب مني التوقف والتريث، والسكون، والتأخر والانتظار. وكم مرة ومرات حين أرى الإشارة الخضراء من بعيد، أحاول الجري إليها مسرعاً، والهرولة لها لاهثًا، لكن لحظة الاقتراب منها يختفي اللون الأخضر الجميل، فتحضنني الإشارة الحمراء، وتوقف عجلاتي، وتكبح جماحي. إنها علاقة غريبة عجيبة لا يُمكن وصفها، أو رسمها، أو تصويرها. كم أتمنى ألا أقف مرة واحدة عند الإشارات، كم أشتهي أن تستقبلني الإشارة الخضراء، قبل أن أفرمل عجلات سيارتي. كم أتمنى أن تفتح أمامي الإشارة الخضراء، وتقول لي لا تقف، استمر وواصل، فطريقك أخضر، ودربك سالك، وحياتك أجمل!! وما زلت حتى اللحظة، أعتقد بأنَّ الإشارة الحمراء، هي شكل من أشكال الحظ العاثر في الحياة، وربما تكون رمزا من رموز التعاسة وعلامة من علامات النحاسة. لكني مع ذلك متفائل بأنَّ البطيخ اللذيذ المعبأ بطعم السكر، ربما سيأتي في زمنه المُحدد، ووقته المكتوب. يمكن الاستغناء عنه في هذه الحياة الزائفة، ويمكن استبداله بفاكهة أخرى أقل لذة، تحوي بعضًا من السكر، وشيئا من الحلاوة. والإشارات الخضراء، ربما تنتظرني في غير هذا العالم، وفي غير هذا الزمن. ربما ستأتي الإشارات الخضراء في وقتها المناسب، ربما ستضيء لي في اللحظة الحاسمة، والدقيقة الفاصلة!
الآن، يُمكنني الوقوف وانتظار الإشارات الحمراء المزعجة في هذه الحياة دون مرارة ودون أدنى إحساس بالفوضى أو شعور بالعبثية، نعم يمكنني تحملها واحتمالها لأنَّ هذا الوقت بلا شك سيمضي، وهذا العمر حتماً سينتهي!
السطر الثالث: حين تعرض عليك الحياة أكثر من خيار وتمنحك أكثر من فرصة، ولكنك تأبى إلا اختيار الاختيار الأسوأ، والسقوط على الفرصة الأسوأ. حين تختار التخصص الأسوأ، وتختار الوظيفة الأسوأ، وتختار مكان السكن الأسوأ، وحين تختار أن تعيش في المجتمع الأسوأ، وحين تختار الصديق الأسوأ، وتختار الطريق الخطأ وتسلك المسار الأسوأ، هنا يبرز السؤال العميق: من هو المسؤول عن كل فشلك وسقوطك، وأوجاعك؟!
كان لدي جار قديم، أحمق عظيم، بليد كبير وجاهل أصيل، إذا طلبت منه أن يصف لك القمر في ثلاث كلمات، فلن يستطيع الوصف ولن يتمكن من كتابة الكلمات الثلاث بشكل إملائي صحيح، وإذا سألته ما هو الشكل الهندسي الذي له أربعة أضلاع متساوية لفغر فاهه كضب صحراوي مريض. كان يعمل في شركة بناء صغيرة ولكنه كان كأغلب الفاشلين والحمقى المحظوظين الذين نجحوا في الحياة وارتفعوا ارتفاعاً مهولاً وأصبح يشار إليهم بالبنان وأصبحت لا تنطق أسماءهم إلا بعد مضمضمة الأفواه بالماء والزعفران. كنت أصطحبه معي حين أنوي شراء البطيخ، كان لا يضع يده إلا على البطيخة الأجمل والألذ والأطيب، كنت أستعين به حين أنوي شراء سيارة مُستعملة أو أجهزة قديمة، كانت عيناه لا تخطآن هدفاً ويداه لا تلمسان شيئا سيئاً أبدًا.
هل الحظ في رؤوس الأصابع؟ هل النجاح في بطون الأيادي؟ هل التوفيق في أطراف الأظافر؟!
قرر جاري فجأة الانتقال إلى مسقط، فسألته: وماذا هناك في مسقط؟ فقال لي بكل ثقة: هناك حظي ينتظرني. وكأنَّه كان متأكدا بأنَّ الحظ يخبىء له حياة أخرى وضرب موعدا معه في مسقط. انتقل إلى مسقط، وانقطع تواصلنا وماتت علاقتنا وانتقلت إلى الرفيق الأعلى. وبعد سنوات التقيته ذات صدفة قبل هذه المصيبة الكورونية التي حلَّت بهذا الكوكب الفاسد، تصادفنا في موقف سيارات، كنت واقفاً وفجأة وقفت بجانبي سيارة عجيبة ضخمة فاخرة. أذهلتني، فإذا بجاري القديم يترجَّل منها كأنه إمبراطور عثماني. لم تغيره السنوات ولم تزده الأيام سوى بلادة ووقاحة وحمقاً، لكنه صدمني حين قال لي بأنَّه حالياً يعمل في شركة ضخمة وفي وظيفة مرموقة وبراتب خيالي!! صعقني، قلت له هذا الراتب لا يأخذه أكبر جراح قلب وشرايين في الوطن العربي الكبير، وأنت تأخذ هذا الراتب بكل سهولة، أي سخف هذا! ما هي طبيعة عملك في هذه الشركة العظيمة أيها العبقري؟ خبير حماقات أم أخصائي سخافات؟ فغضب مني وكاد أن يبصق في وجهي، وركب سيارته الفارهة وعفرني بالتراب والغبار والحصى.
السطر الرابع: قالت لي أمي يوماً: مصيبة لو قرع الحظ بابك وكنت خارج المنزل! رحمك الله يا أمي، المصيبة يا أمي أن الحظ حين قرع بابي كنت نائماً، مستغرقاً في النوم، كنت أحلم بأنني أحضنه وأقبل جبهته!
السطر الأخير: ما زلت محظوظاً جداً مقارنة بحال الشاعر الذي وصف حظه قائلاً:
إنَّ حظي كدقيق فوق شوك نثروه// ثم قيل لحفاة في يوم ريح اجمعوه// فصعب الأمر عليهم// فقلت يا قومي أتركوه// إنَّ من أشقاه ربي كيف أنتم تسعدوه؟!