غرباء في أوطاننا.. الخليج نموذجا (2)

 

 

د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري *

من نتائج الهجرة الكثيفة للعمالة الوافدة إلى دول النفط، واعتماد الحكومات الخليجية عليها كقوة عمل أساسية في مختلف القطاعات التنموية، خلخلة التركيبة السكانية للمجتمعات الخليجية؛ بحيث تحول المواطنون بسببها إلى أقليات في أوطانهم؛ فتراجع دورهم الإنتاجي كقوة عمل رئيسية تقوم عليها اقتصاديات دول الخليج، ومن ثمَّ تم تفكيك العلاقة الاعتمادية التاريخية  المتبادلة بين الدولة الخليجية ومجتمعها، وضعُفت قدرة المواطنين على التأثير في صانعي ومتخذي القرارات في الشأن العام للمجتمع والدولة، وفي كل ما يشكل حاضرهم ومستقبلهم.

وأصبح المواطنون الخليجيون مجرد جماعة، أو مجتمع فرعي، أو بقايا مجتمع، كان تياراً رئيسيًّا نشطاً منتجاً ومشاركاً في القرار العام، ومؤثراً في مجريات الحياة في حقبة زمنية من الماضي الخليجي، طبقاً للمفكر القطري علي خليفة الكواري الذي يطلق صيحة تحذير من المصير الخليجي  بسبب الخلل السكاني في كتابه القيم "تنمية للضياع أم ضياع لفرص التنمية؟".

 

الوضع السكاني الخليجي:

الوضع السكاني في الخليج وضعٌ غير طبيعي لا مثيل له بين مجتمعات العالم المعاصر، لم يعد المواطنون يشكلون التيار الرئيسي الغالب ولهم الأغلبية العددية؛ إذ تتراوح نسبهم بين 10% في حدها الأدنى لتصل إلى 60% كحد أقصى، ولا تصل إلى أغلبية الثلثين في أي دولة خليجية، وهذا وضع شاذ أو استثنائي بين دول العالم.

 

وما نتائج وتداعيات كون المواطنين لا يشكلون التيار الرئيسي في أوطانهم؟

أولاً: إضعاف تأثير المواطنين على صناع ومتخذي القرارات المتعلقة بالشأن العام المجتمعي؛ سواء فيما يتعلق بالشؤون الداخلية أو الخارجية، وما يتعلق بالواقع الحاضر أو المستقبل المصيري؛ الأمر الذي أدى لهامشية مشاركتهم السياسية، ومن ثمَّ ركونهم إلى ثقافة وعقلية ومسلكية "اقعد.. فأنت الطاعم الكاسي" السلبية، وهي أخطر ما تُصاب به الشعوب والمجتمعات .

ثانياً: افتقار المجتمع إلى عامل "الثقافة الجامعة المشتركة" الضابط للسلوك الاجتماعي العام؛ كون الجاليات المقيمة في الخليج، كلٌّ لها ثقافتها ولغتها وعاداتها وتقاليدها ومعاييرها القيمية والسلوكية وهمومها واهتماماتها المرتبطة بالوطن الأم؛ فهي لا ترتبط بثقافة الجماعة المواطنة ولا تتمثلها، وهذا الانفصال الثقافي بين التجمُّعات البشرية على أرض الخليج يجعل الضبط الاجتماعي العام ضعيفا، وتذهب صيحات الحفاظ على الهوية الخليجية واللغة العربية مع الريح.

ثالثاً: إضعاف دور دعاة التغيير والإصلاح وإضعاف مطالبهم في كافة الميادين: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتشريعية والقضائية والإدارية، وحتى في مجالات التصدي لظواهر الفساد وسوء الإدارة والتسيب وضعف الإنتاجية...إلخ؛ كون هذه المطالب غير مسنودة بأغلبية سكانية مواطنة تشكل تياراً رئيسيًّا ضاغطاً في المجتمع. ولعل هذا يفسر تساؤلاً طرحه المفكر الكويتي محمد الرميحي في كتابه الشيق "اضطراب قرب آبار النفط" (دار الساقي 2011): "هل تسهم النخب الخليجية في التغيير الاجتماعي للمجتمعات التي تعيش فيها أم لا؟"، وأجاب: "لا يُمكن لأي نخب أن تكون فاعلة إلا إذا سَمَح لها مجتمعها بحرية الحركة". وأضيف: ووجدتْ استجابة مجتمعية داعمة، أو قناعة سياسية من قيادة مستنيرة .

رابعًا: تضاؤل دور قوة العمل المواطنة في النشاط الإنتاجي؛ بسبب تزايد اعتماد المواطنين على الدولة الريعية التي ابتلعت المجتمع، وجسدت الأبوية الرعوية عبر سياسة الإنعام والمكرمات، وكذلك بتزايد اعتماد الدولة والقطاع الخاص والمواطنين على قوة العمل الوافدة في كافة مناشط الحياة الخليجية، ولتعظيم المصالح الخاصة والآنيّة على حساب المصلحة العامة.

خامساً: تردِّي مُعدَّل "جودة الحياة" في العواصم الخليجية؛ بسبب التكالُب البشري الكثيف على الخدمات والمرافق العامة، وعجز الجهات المسؤلة عن مواكبة الطلب المتصاعد للمعدلات السريعة للتزايد السكاني، فضلاً عن ارتفاع معدلات التلوث بكافة أشكاله في الفضاء الخليجي.

أخيرًا.. هذا الخلل السكاني المتفاقم، أصبح عِبئاً ثقيلاً يستنزف موارد وطاقات الدول الخليجية باستمرار، وقد ترسَّخ في البنية المجتمعية الخليجية وتحوَّل إلى ما يشبه "قنبلة موقوتة" يصعُب التخلص منها إذا استمرت الأوضاع وتعقدت، ولم يُتخذ بشأنها قرار خليجي حازم وحاسم.

وللحديث بقية...،

 

* كاتب قطري