التواصل بردات الفعل

 

د. خصيب عبدالله القريني

 

يبدو أنَّ دراستنا للنظرية المعروفة (لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه) قد انعكست على مُمارساتنا الاجتماعية بصورة متقنة، قلما نجد نظيرا لها في بقية النظريات،رغم ابتعاد هذا المبدأ نظرياً عن المنظور المجتمعي على الأقل منزاوية بناء العلاقات وتكوين الصداقات، لكن تكرار إننا لم نستفد من دراستنا للنظرياتفي حياتنا ربما ساهم بطريقة أو بأخرى في تعميق هذا المبدأ.

إنني من خلال ماسبق أريد أن أصل مع القارئإلى نقطة أساسية طبعت أسلوب حياتنا وهي مايُسمى التواصل بردات الفعل وقد يكون مصطلحا جديدا ابتدعه كاتب المقال عند تعاطيه مع الكثير من الإشكاليات التي يُواجهها الناس في بعض المجتمعات،ذلك أنك لن تحظى برسالة نصية تُهنئك على عمل أنجزته،أوشفائك من حالة مرضية عارضة مثلاًإلا إذا كنت قد أرسلت لهم شخصياًبأنك قد أنجزت تلكالمُهمة التيتستحق التهنئة عليها أو أنك تئن في المستشفى من ألم معين مثلاً، مع العلم أنهم في كلا المثالين على علم بهما من أقربائك أو أصدقائك، أو حتى حالتك على وسائل التواصل المجتمعي ولكن كل ذلك لايغفر لك أو لايمكن أن يسمح لهم بتهنئتك إذا لم تبادربإعلامهم بنفسك، ومن هنا كان لابد للفعل من ردة فعل كما هو في النظرية السابقة، وهي طريقة تعمقت لدى كثير من شرائح المجتمع تستدعي نوعًا من (الاستجداء العاطفي)،إذا ماجاز لنا التعبير تمارسه مع الناس لكي تطلب ردات أفعالهم، وهنا ظهرت ممارسات جديدة هي أبعد ماتكون عن مسألة صنع نوع من التواصل المجتمعي بين النَّاس.

وهذا الأمر في اعتقادي له بواعث تاريخية وإرث متأصل، فاتذكر أنّ من يريد أن يسافرقديماًلأداء شعيرة الحج أو العمرة يقوم بزيارة وتوديع الناس في قريته قبل ذهابه، وبالتالي يلتزم كل من قام بزيارته والمسامحة منه برد الزيارة،أما أؤلئك الذين لم يزرهم قبل سفره فلا يجدون مبرراً في رد الزيارة إلا من تسامت أخلاقهم فوق مستوى الحقد والحسد المجتمعي، ويبدو أننا ورثنا هذه العادة بكل تفاصيلها مع تغير النسق العام في عملية التواصل.

وربما الحديث عن هذا الخلل في مجالالتواصل المجتمعي يجرنا إلى ماهو أبعد أيضاً من مجردوجود ردة فعل للفعل ذاته، حيث بات الأمر أكثر خطورة عند البعض، ذلك أنَّ هذه النظرية أصبحت تحتاج إلى تغيير في جانبها الاجتماعي، حيث إن الفعل أصبح لايجد ردة فعل، فقد انتقلنا إلى مرحلة متقدمة في عملية التواصل المجتمعي،فقد تمارس تواصلا إلكترونيا مثلاً عبر إحدى منصات التواصل المجتمعيمع شخص معين، ويقوم بمشاهدة حالة الفعل التي أرسلتها ولكنه لايحرك ساكنًا، وقد تقوم بدعوته لمُناسبة معينة ولكنه هنا رغم الفعل الذي أبديته قدلا يمارس رد الفعل المساوي في المقدار والمعاكس فيالاتجاه لفعلك.

إن كل ذلك لايُمكن أن يقال إنه منحصر في فئة معينة أو مجتمع ضيق بل هوشائع بصورة كبيرة من وجهة نظري، فهوأحد إفرازات الجوانب الحياتية الأخرى والتي لعلها الجانب الاقتصادي الذي يؤثر بصورة مباشرة على الحياة المجتمعية، حيث إنه كلما زادت المستويات المعيشية قلت الروابط المجتمعية نتيجة لقلة حاجة الناس لبعضها في عملية التواصل، وأقصد هنا بالتواصل المرتبط بالحميمية المجتمعية وليس التواصل القائم على المصالح الشخصية فذلك موضوع آخر.

إنَّ قدرتنا على تجاوز معضلة التواصل المجتمعي دون الحاجة إلى فعل هو أحد الجوانب الحضارية التي يجب أن نتسم بها لكي نؤكد أن بناء أي حضارة هو بناء لأخلاق الإنسان قبل بناء المشاريع الإسمنتية التي تزول مع عوامل الطبيعة ولكن الأخلاق لايمكن أن تتزعزع مهما كانت الظروف.

تعليق عبر الفيس بوك