غرباء في أوطاننا: الخليج نموذجا (1)

د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري *

تسعى العواصم الخليجية، جاهدة، للحفاظ على الهُوية الخليجية والعربية، لكن المواطن الخليجي عندما يسير في مناطق وأحياء من عاصمة بلاده المكتظة بالجاليات الأجنبية، يجد نفسه زائراً وافداً فيها، يحس بمشاعر الغربة وهو في وطنه، ويستحضر ما قاله شاعر العربية الأكبر المتنبي عندما زار شعب بوان، القريب من شيراز، وقال قصيدته المشهورة:

لكن الفتى العربي فيها... غريب الوجه واليد واللسان

ملاعب جنة لو سار فيها... سليمان لسار بترجمان

فرجان ومناطق وأحياء بكاملها في معظم عواصمنا الخليجية اضطر سكانها المواطنون للنزوح عنها بعد أن فاضت بالسكن العشوائي الكثيف للجاليات الأجنبية لأنهم أصبحوا غرباء فيها! اقتلعت هويتها الخليجية والعربية وتحولت إلى مناطق ذات كثافة خانقة، ضاغطة على الأعصاب بضجيجها العالي، تنوء مرافقها وخدماتها وشؤون البلدية والنظافة من عبء الازدحام السكاني فيها.

إنها "لعنة النفط" أو بالأدق الثروة الريعية التي لطالما حذر مفكرو ومثقفو الخليج من آثارها وتداعياتها السلبية على التركيبة المجتمعية وعلى الهوية الخليجية والثقافة العربية،  وأشبعوها حواراً ونقاشاً عبر ندوات ومؤتمرات ولقاءات ومحاضرات وبحوثاً تحليلية وتشخيصية على امتداد 4 عقود، كان من أنشطهم المفكر القطري علي خليفة الكواري في مؤلفاته العديدة، وأهمها كتابه التحليلي القيم "تنمية للضياع أم ضياع لفرص التنمية؟ محصلة التغيرات المصاحبة للنفط في دول مجلس التعاون" الصادر عام 1995.

امتلأت عواصمنا التي كانت تنعم بهدوء وجمال وراحة بال، قبل الطفرة الريعية، بطوفان بشري تدفق بكثافة، من دول المجاعة والفائض السكاني، فقلب حياتها الهادئة الوادعة صخباً متلفاً للأعصاب ومفسداً للمسلكيات، كما أدى هذا التدفق غير المنضبط لاكتظاظ مروري رفع معدلات التلوث في عواصمنا، وتحول العديد من المناطق فيها إلى عشوائيات غير صحية، شكلت عبئاً ثقيلاً على البنية الأساسية من ماء وكهرباء وصرف صحي، واستنزافاً مدمراً للخدمات من صحة ونظافة وشؤون بلدية وحدائق ومساحات خضراء. وكان من نتائجها:

1- تدني مستوى "جودة الحياة" في المجتمعات الخليجية مقارنة بالمجتمعات المتقدمة.

2- اضطرار الحكومات الخليجية إلى إنفاق المليارات لإعادة بناء البنية الأساسية والخدمات من شوارع وأنفاق وجسور وشبكات مياه وكهرباء وصرف صحي  وصيانتها.

على أنَّ أخطر ظواهر هذا التدفق البشري إلى الخليج، ظاهرة "أخلاقيات الزحام"؛ وهي مجموعة من المسلكيات الفوضوية المخالفة للقانون وللنظام العام، والتي هي من السمات الملازمة للمجتمعات المتخلفة ذات الفائض السكاني.

ومن ناحية أخرى، أدى التكالب الكثيف على الخدمات الصحية، إلى أنْ أصبح المواطن مضطراً للانتظار طويلاً من أجل الحصول على موعد لمقابلة الاستشاري أو غرفة خاصة في المستشفى.

ما كان لهذه الهجرة البشرية الكثيفة للعمالة متدنية المهارة والسلوك أن تخلخل التركيبة السكانية الخليجية لولا تدفق الثروة الريعية، وتوجه أهل الحظوة والنفوذ الذين استفادوا منها إلى الاستثمار في التوسع العمراني (وهو توسع بلا أفق اقتصادي منتج) كمصادر إضافية  لمراكمة المداخيل والأرباح الخاصة.

وأدَّى تبني سياسة التوسع العمراني، وما يستلزمها من عمالة كثيفة إلى تحول العواصم الخليجية إلى ورش ومعسكرات عمل وعمال، وفقدت عواصمنا جمالها ورونقها وهدوئها. وبعد أن كانت شوارعها تزدان بالسيارات الفارهة الجميلة، صارت تعجُّ بالمركبات الرخيصة والحافلات الكئيبة التي تنقل عمالة بائسة غداة وروحة.

أصبحنا في مجتمعاتنا الخليجية أقليات، وفي بعضها صرنا أقل الأقليات، وبعد أن كنا التيار الرئيس الذي يحافظ على الثقافة العربية والهُوية الخليجية، والمايسترو الذي يضبط السلوك العام المجتمعي، فقدنا هذه القيادة والتأثير.

اقتصاديات الريع أنتجت دولة رعوية أبوية تعتمد سياسة المنح والأعطيات والمكرمات، وثقافة اجتماعية تقوم على قيم التفاخر بالأحساب والأنساب والمباهاة، ومسلكيات تتسم بالولع في الإنفاق الترفي والتبذير السفهي، واقتناء أثمن الماركات، لدى الأجيال الجديدة والجنس اللطيف بالذات.

وللحديث بقية...،

 

* كاتب قطري