رجل غريب.. وقرار عجيب!!

عبدالله الفارسي

 

"اقترفت كل الجرائم باستثناء جريمة واحدة، أن أكون أبا!!" إميل سيوران.

 

هل تذكرون حين عرضت عليكم ذات مساء قصة "رجل شجاع من مطرح" هذه حكاية رجل شجاع آخر ولكن شجاعة من نوع مُختلف وبنكهة غريبة. أحيانا تذهلك الحياة بمقابلة أشخاص غريبي الأطوار، فريدي الصفات، غريبي المواقف، مدهشي القرارات.. شباب ولكنهم أصحاب عقول، يُمكن أن نسميهم فلاسفة، أو أشباه فلاسفة، أو يُمكن أن نطلق عليهم أنهم أنصاف حكماء بكل معنى الكلمة، استطاعوا أن يحققوا رغباتهم في الحياة بذكاء عجيب، عناد وإصرار غريب، أو بمعنى أصح استطاعت الحياة أن تمنحهم ما أردوا وأحبوا بطريقتهم التي أرادوا. استطاعوا أن يعيشوا حياتهم كما يرغبون، ولم يلتفتوا لرأي المجتمع وثقافته، ولم يخضعوا لأفكاره ووساوسه. وأعتقد أنك حين تقابل شاباً في العشرين من العمر، ويقول لك بأنه لا يرغب في الزواج قبل الخامسة والأربعين، ولا يرغب في إنجاب أبناء نهائياً، ففكرة كهذه لأوَّل وهلة تعتبر نوعا من أنواع الخبل، وصنفاً من أصناف الجنون خاصة في مجتمع زواجي بامتياز؛ حيث يخرج الشاب من حضن أمه إلى حضن زوجته مباشرة قبل أن ينضج عقله ويستوي عوده. مجتمع لا يتقن شيئاً سوى الجنس والأكل، مجتمع تكاثري يتباهى بالتلقيح والإنجاب، ويتفاخر بالطاقة الذكورية والفحولة، مجتمع يعتبر الأعزب إنسانا ناقصا ومريضا وأحيانا شاذا.

فحين تجلس مع شاب يافع وسيم وأنيق في العشرين من عمره، وتسمعه يصرح لك بكل ثقة ووضوح واتزان بأنه لا يرغب في تأسيس أسرة أبدًا، وأنه يرغب في الاستمتاع بحياته حتى الخامسة والأربعين، وأن مصطلح "الأسرة" محذوف من حياته في العشرين سنة الثانية من حياته. ويؤكد لك أنَّه إذا ما قرر الزواج بعد الخامسة والأربعين فإنِّه لا يرغب مطلقا في إنجاب أبناء، وأنه سيتزوج من امرأة عقيم، أو امرأة تجاوزت مرحلة الإنجاب، أو من امرأة أنجبت وانطفأت شهوة الإنجاب لديها. حين تسمع هذا التصريح من شاب، تتركه مباشرة، وتسخر منه سخرية عظيمة، وتقول له "أنت حتماً مجنون أو مخبول"، ثم تتركه وراء ظهرك، كأنه لا أحد، كأنه لا شيء، لكن تكتشف بعد أن تلتقي معه بعد ثلاثين عاماً من هذا الحوار أنه كان العاقل الوحيد الذي قرأ الحياة بشكل صحيح، وفهم سطورها بطريقة مذهلة، وفريدة.

في شهر ديسمبر الماضي، كنت في العاصمة مسقط، لا أدري لماذا دائماً أهرب من مدينتي صور إلى مطرح لأتسكع في ذلك السوق الذي كان يسمى ظلماً سوق الظلام، في الحقيقة إنه سوق النور والضياء فلقد أخبرتكم بأنه المكان الذي أعثر فيه دائماً على مفقوداتي الثمينة، وأصادف فيه صداقاتي ومعارفي القديمة، إنِّه المكان الذي يقدح قريحتي، ويشعل شمعة قلمي بسهولة ويُسر وإنطلاق.

في العادة أحب زيارة ذلك السوق لعلي أحظى بموقف يحفز قلمي على الكتابة، أو منظر يجبر قريحتي على الإنشاء والبلاغة. وغالباً لا أبحث عن شيء مُحدد، وانما أتسكع هنا وهناك لأقتل الضيق، وأحرق الوقت، وأخمر عجينة السطور. كنت في ذلك اليوم غاية في التهلهل، والترقع، والإندثار، والترنح، وفجأة فاجأتني الصدفة بمقابلة إنسان جلست معه منذ ثلاثين عامًا، جلست معه لمدة ساعتين فقط في أحد أيام العام 1988 في سوق السيب. هو عرفني مباشرة، وناداني، وأنا لم أعرفه، إلا بعد أن قال لي، "لقد جلسنا معاً في مقهى في السيب وتعشينا مع بعض ألا تذكرني؟"، فلم أتذكره، لكنه ضحك، وقال ألا تذكر شخصاً قال لك بأنه لن يتزوج إلا بعد الخامسة والأربعين!!

هنا اشتعلت ذاكرتي الواهية المنطفئة، واستقيظت خلايا عقلي الميتة، الخاملة. وبدأت أتذكر هذا الشاب الذي سخرت منه في تلك الجلسة، حين قال لي بأنَّه لن يتزوج قبل الخامسة والأربعين، وتذكرت أيضاً عبارته الأخطر أيضاً حين أكد لي أنه سيبحث عن امرأة لا تنجب، لأنه يفضل مواصلة الحياة بدون أبناء!

ثم فجر في وجهي عبارته التي مازالت تشتعل في ذاكرتي "ظهري ضعيف لا يقوى على حمل أبناء والركض بهم في هذا الواقع المرير". سحبني من يدي بكل حنان وشوق ولهفة وكأنني أخوه الكبير، وأسكنني في مقعد صغير أمام مقهى حقير، وطلب لي شايا وخبزا وعصيرا.

حقيقة، حين تصادف إنسانا لم تراه منذ ثلاثين عامًا، يقتحمك فضول للقبض عليه والثرثرة معه، ومعرفة أخباره، والاطلاع على سيرة حياته، والوقوف على مُغامراته وسماع إنتكاساته. إننا نعشق سماع سير حياة من نتعرف عليهم، يسيل لعابنا لمعرفة أسرارهم، ونجاحاتهم، وسقطاتهم وإخفاقاتهم.

فكل إنسان يحاول أن يطلع على سيرة حياة الآخرين،. ليصنع مُقارنة واهمة بينه وبين نفسه، وليعزز نفسه بكل أصناف الكذب والتحايل على الذات، ويقول لنفسه سرا (الحمد لله، حياتي كانت أفضل من حياة هذا الرجل، أنا الأفضل!!)؛ حيث لا يمكن المقارنة بين حياتين، أو بمعنى أدق لا يُمكن المقارنة بين قدرين!

فالأقدار قضايا محسومة من السماء وليس من المحبب مقارنتها أو تحليلها، وكما يقولون: الذكاء والحذر لا ينجيان من القضاء والقدر. لكننا نلجأ لمثل هذا النوع من المقارنات لأنها من أهم طرق التحايل على الذات وأنجع وسيلة من وسائل ترميم الانتكاسات الحياتية وعلاج الإنكسارات النفسية.

المهم.. أذهلني الرجل فعلاً، فقد كان أنيقًا، صحيحاً، معافى، ومتألقا، ينضح سعادة، ويتدفق ألقا وزهوا، وكأنه في بدايات الثلاثين من العمر، بينما كان في الحقيقة في عامه الحادي والخمسين، كنَّا في نفس العمر تماماً. وكنت أمامه كأنني في مرحلة أكبر، وعمر أبعد. إنها عوامل التعرية الحياتية والمجتمعية التي تضرب الوجوه، وتحطم الصدور، وتهشم الأفئدة!!

الذي لفت نظري ورفع معدل الذهول وطبعه في وجهي، حين قال لي بأنه لم يتزوج إلا منذ خمس سنوات بالضبط، أي حين بلغ الخامسة والأربعين، يا إلهي!! كيف استطاع هذا الرجل تحقيق هذه الرغبة الصعبة العنيفة المزعجة، المؤلمة. كيف قاوم غريزة الالتصاق بالمرأة؟ كيف انتصر على أوامر المجتمع وطقوسه وخرافاته؟

فسألته: كيف فعلتها؟

رشف رشفة قوية من شايه، ثم ألقى أمامي محاضرة فلسفية وجودية عميقة لم أسمعها من قبل في حياتي من أي أستاذ جامعي خلال سنوات دراستي للفلسفة، ولم أقرأها حتى في مساقات الماجستير المتعلقة بالإرشاد النفسي وعلم النفس السلوكي.

قال لي: عشت حياتي طولاً وعرضًا، سافرت إلى أكثر من ثلث دول العالم، لم أضع المرأة في قلبي مطلقاً، وحذفتها من رزنامة أفكاري وأبعدتها من هواجسي ومخيلتي، استهلكت حياتي استهلاكاً لذيذا، ممتعاً، ورائعاً، رياضة، مُتعة، سفر، لا رقيب ولا حسيب سوى نفسي. لا أقول لك بأني كنت نظيفا عفيفا طاهرا، لا، فلا أحد طاهر في المجتمعات البشرية، يستحيل أن تكون نظيفاً في مجتمعات مليئة بالشهوات والمُغريات والانحرافات. لكن لم تكن المرأة شيئا مهما في عقلي، وما زالت لا تحدث في نفسي ذلك الصخب الذي يدمر الرجل، ويسلبه حريته وكرامته ويمرغ أنفه في التراب.

فقلت له: وهل تزوجت من امرأة عقيم؟ فقال نعم، لقد تزوجت من امرأة عقيم كما خططت، لقد تزوجت من امرأة طيبة جميلة، تطلقت بعد أن تأكد عقمها وجفاف رحمها، لقد بحثت عنها سنتين كاملتين في عدة ولايات  حتى عثرت عليها في ولاية بعيدة جداً عن مدينتي، وكأنها كانت تنتظرني، وكأنَّ الله قد حدد وقت لقائنا، لقد أطفأت لهيبي، وأدفأت فراشي، وآنست وحدتي. وهاهي معي وأتمنى من الله أن ترافقني البقية الباقية من حياتي.

قلت له: وكيف تستطيع الحياة بدون أولاد. الأبناء زهور الحياة ورحيقها، إنهم زينتها وجمالها وألوانها.

ضحك بكل ألق وجمال وقال: أنا عشت في أسرة كبيرة، سبعة إخوة وأربع أخوات، وأنا كنت أصغرهم. كلهم متزوجون، ولديهم من الأبناء العدد الكثير والوفير، نصفهم يقولون لي "عمي"، والنصف الآخر يدعونني "خالي". كنت أراقب الجميع بعين الدارس، وعقل الباحث؛ لقد رأيت مُعاناة إخوتي، لقد شاهدت ألمهم، لقد سمعت وجعهم وأنينهم وغضبهم وصراخهم، ولمست إذلالاهم وشقاءهم وانحناءهم لزوجاتهم وأبنائهم، رغم سعادتهم المفتعلة لكنهم في الحقيقة كانوا تعساء، ورغم فرحهم المختلق لكنهم كانوا أشقياء، إنها عملية نفسية معقدة جدًا لا يمكن تحليلها بسهولة. كنت أراقب وضعهم، وأقيس نبضاتهم، لقد سخروا كل حياتهم لأجل بيوتهم وأسرهم، لقد استهلكوا كل أعمارهم في تربية أولادهم، ومازالوا يحرقون أعصابهم لأجلهم، وربما يموتون فجعا وألما بسببهم. لم يعيشوا لأنفسهم أبداً، وهذا ديدن كل الآباء المخلصين. كانت حياتهم تحذيرا وإنذارا كبيرا لي، ولذلك اتخذت قراري منذ فترة طويلة جدا. لا أرغب في أن أعيش تجربة أحدهم مهما كانت ممتعة ورائعة. أنا لست قوياً كفاية كإخوتي لتحمل تبعات أبناء، وتربيتهم، والشقاء والذوبان من أجلهم، واللهث وراءهم، والاحتراق خلفهم، فعلاً، أنا غير قادر على ذلك، لا أرغب في الانحناء من أجل أبناء لا أعرف ماذا سيقدمون لي، لا أتمنى الركوع والانذلال من أجل أطفال لا أضمن برهم، ووفاءهم، كما لا أضمن حياتهم ومرضهم وصحتهم، ولا أطيق القلق والفزع على مستقبلهم، وألمهم وشقاءهم. لا أحتاج إلى أبناء يدعون لي في صلواتهم وسجداتهم. لا أحتاج إلى أبناء ينحنون لي ليناولوني حذائي البالي، ويضعونه في قدمي المُرتعشة. لا أحتاج إلى أبناء يدفعون من جيوبهم صدقة تطهرني من الذنوب والخطايا، لا أحتاج إلى أبناء يمنحونني تأشيرة دخول إلى الجنة، أنا لا أرغب في بقاء اسمي حياً، ولا أتمنى لسلالتي النادرة الانتشار والاستمرار والسيلان والتدفق، أريد أن أعيش لنفسي فقط، وأموت بنفسي.

ثم ضحك وقال عبارة عجيبة، قال "العمر قصير جدًا جدًا يا صديقي لا يكفي لصرفه وتوزيعه على أسرة وأولاد". ثم استأنف: الحمد لله، حققت رغبتي، وأمنيتي، وأنا أعيش أجمل أيام حياتي مع زوجة لا تنجب، فأنا كل شيء في حياتها، أنا ابنها، وهي زوجتي وابنتي وكل ما أنتمي إليه في هذه الحياة. عشت أعواماً قبل وصولها، طائرا حرا، طليقا، سريحا، وما زالت أجنحتي طويلة وطليقة، أحلق بهما كيفما أشاء، ويكفيني كلمة "عمي" و"خالي"، لإطفاء غريزة الأبوة في داخلي.

يكفيني سعادة يا صديقي أنني أنام ولا أفكر في ابن يتألم وهو يلهث في الشوارع كل صباح باحثاً عن وظيفة أو ابنة تدرس وتتخرج ثم تجلس خائفة من شبح العنوسة وتنتظر زوجاً يقرع بابنا، أنا لا احتمل كل هذه الأحمال يا صديقي، صمت محدثي ليكمل احتساء الشاي، وازدراد القطعة الأخيرة من خبزته الأخيرة، ثم نظر إليَّ بعينين واسعتين كأنهما سحابة حبلى بالماء والفرح، ليكمل صمته ويُواصل وجومه.

إذن كان ذلك هو سر قوته، وصحته، وعافيته!! لقد أقنعتني فلسفته، وأذهلتني حكمته، و"كل مُيسر لما خلق له".

البشر عقول مُختلفة، وأفكار متباينة واعتقادات متنوعة، ولكل إنسان مُطلق الحرية في التفكير والاعتقاد بما يشاء، في الوقت الذي نلهث ونتعذب فيه نحن الآن من أجل ضمان مستقبل أبنائنا، والقلق على غدهم الغامض ومستقبلهم المجهول، هو يقف في الجانب الآخر من النهر، إنه في منأى تام من هذا الصنف المؤلم من التفكير وبعيد كل البعد عن هذا النوع من الأرق والعذاب. هو، فضل أن يعيش حرا طليقا، لا يخضع لزوجة، ولا يلتزم بتربية أولاد، ولا يخضع لأسرة، ولا ينحني لرغبة ابن أو معاناة ابنة، وقد استطاع أن يغذي هذه الرغبة في أعماقه منذ سنوات شبابه الأولى، لذلك نجح في الانتصار على غريزة الأبوة الراسخة في أرواحنا، وهزمها بسهولة كبيرة.

لكن الغالبية العظمى من الرجال يفضلون القفص الزوجي، يفضلون الاختناق، يُحبون المُعاناة، لا يحتملون وخزة الغريزة، ولايطيقون جمرة الشهوة، لذلك ينجذبون للنساء مُقابل إطفاء متعة سريعة كاذبة، إنهم يستمتعون بمبدأ المغامرة وملتزمون بقانون المقاومة، يستعذبون الألم لأجل عيون أطفالهم البريئة الصادقة!!

هي في النهاية أفكار، ومُعتقدات، ووجهات نظر. والكيّس ليس من أنجب أبناء وبنين، وملأ صحن البيت صبيانا وبنات، بل الكيس من فهم الحياة، وأدرك ماهيتها، واستطاع الانتصار عليها، والاستمتاع بكل دقيقة فيها، ثم تركها غير مأسوف عليها. وربما صاحبنا قد فهم الحديث النبوي الشريف القائل "الولد مجبنة مبخلة محزنة"، بشكل سطحي جدًا وطبَّقه بصورة عميقة جداً!

ويبقى قراره من وجهة نظري شجاعاً وجرئياً، وجديراً بالاحترام.