التطبيع الإسرائيلي مع العرب وأجنداته السياسية

جمال الكندي 

الوجود اليهودي في فلسطين منذ الانتداب البريطاني كان يحمل أجندات سياسية مرسومة بدقةٍ من قبل الصهاينة وحلفائهم الغربيين، فهم يدركون أنَّ  بقاء النظام قوياً يعتمد على إضعاف خصومه من العرب وخاصة دول الطوق "مصر، وسوريا، ولبنان، والأردن"، لذلك رسمت السياسة الصهيونية بالنسبة للتعامل مع العرب على أن تكون ذات شقين (عسكري- وسياسي).

إسرائيل تخشى دائماً من الشخصية العربية التي تحمل المُعادلة العسكرية في التعامل معها من أمثال: الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الرئيس الراحل حافظ الأسد، الرئيس الراحل أنور السادات، الرئيس الراحل صدام حسين، السيد حسن نصر الله. لذلك كان العنوان البارز لتلك الحقبة هو حربي 1967 و1973، و"مصر عبد الناصر" كانت هي قائدة الجبهة العربية المُوحدة ضد إسرائيل لاسترجاع الأراضي العربية المُحتلة بعد النكسة.

وثمار الوحدة العربية في مواجهة إسرائيل تجسدت في نصر أكتوبر 1973، ومن رحم هذا الانتصار ولدت المُعادلة الإسرائيلية الثانية في مُواجهة العرب وهي أجندة "كامب ديفيد" التي كان من أهم ركائزها تحييد مصر تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، الذي بدوره أخرجها من دائرة الصراع العسكري معها، وجاءت بعد ذلك أجندة اتفاقية "أوسلو" التي حيدت جزءاً من الطيف السياسي الفلسطيني، ثم اتفاقية "وادي عربة" مع الأردن، وبذلك خرجت إسرائيل مُنتصرة سياسياً بتحييد هذه الدول عن الصراع العسكري معها، وبقيت في الساحة سوريا مُنفردةً في صراعها مع إسرائيل.

ما ذكرناه سابقاً نستطيع أن نصنفه بالمرحلة الأولى من الصراع العربي الإسرائيلي الذي كان عسكرياً ودبلوماسياً، واستطاعت إسرائيل للأسف أن تفرض أجندتها السياسية على مصر والأردن والسلطة الفلسطينية من خلال هذه الاتفاقيات، وهذا يعني الاعتراف بها كياناً سياسياً بعد أن كانت مصنفة بأنها محتل وسارق للأراضي العربية.

المرحلة الثانية من الصراع العربي الإسرائيلي بدأت بأصوات زعماء عرب خارج دول الطوق، وكانوا يرفعون الصوت عالياً ضد إسرائيل في الجامعة العربية، ومنهم من قصف إسرائيل لأوَّل مرة كزعيم دولة منذ حرب 1973 وهو القائد الراحل صدام حسين، الذي أسس جيشاً خاصاً لتحرير القدس، وهذه الأمور وإن كانت رمزية، لكن كان لها أثر معنوي كبير في تهديد أمن إسرائيل؛ لأنها تعلن عداءها لهذا الكيان، وهو ما تخاف منه إسرائيل، فكان لابد من تغييب هذا الصوت وخلق فوضى في بلاده وهذا الذي حصل، فبعد قصف صدام حسين إسرائيل بـ39 صاروخ سكود عام 1991م غزت أمريكا العراق عام  2003م وأطاحت بنظام صدام، وجاء الربيع العربي ليخرج من بقي من القادة العرب الذين ترتفع أصواتهم ضد إسرائيل، لإخراجهم من المُعادلة العربية في العداء لهذا الكيان، فتغير بتغيرهم الخطاب العربي ضد إسرائيل، من خطاب يدعو لتحرير الأرض من المُغتصب إلى خطاب الخضوع له عبر صفقة القرن المُذلة.

ولسد فراغ غياب دولة مثل مصر في عهد القائد عبد الناصر، جاء لاعب قديم جديد للمنطقة يحمل أجندة تتقاطع مع من يُعادي إسرائيل ويُؤمن باسترجاع ما سلبته من أراضٍ عربية بالقوة، فجاءت الثورة الإيرانية بكل أبعادها الآيدولوجية والسياسية؛ سواءً اتفقنا مع بعض أفكارها أو لم نتفق معها فقد سدت هذا الفراغ، وأعلنت أن بوصلتها فلسطين، وترجمت ذلك على الأرض بأن سلمت سفارة الكيان الصهيوني في إيران إلى دولة فلسطين.

دخول إيران في المُواجهة العسكرية غير المُباشرة مع إسرائيل أوجد معادلة جديدة، وهي محاصرتها بالتطبيع مع دول جوارها الخليجي، ومحاولة بناء جبهة عربية إسرائيلية عنوانها مُواجهة إيران أمنياً وعسكرياً مستثمرةً البعد المذهبي الذي كان ومازال عاملاً أساسياً في التوتر السياسي بين إيران ودول جواره السني، وطبعاً هذا ينقل الصراع الإسرائيلي مع إيران إلى أسوار حدودها بفعل التطبيع.

والسؤال الذي يطرح نفسه: هل التطبيع الخليجي يصب في مصلحة هذه الدول؟ أم أنه سيخلق بؤرة توتر خليجية إيرانية تُؤثر في منطقة اقتصادية مهمة وهي الخليج العربي؟

التطبيع الإسرائيلي مع العرب له دلالاته السياسية، فهو تعبير عن فشل المُخطط الصهيوأمريكي في عزل خطوط المُقاومة في المنطقة، وفي إيجاد الفراغ الجغرافي بقطع تواصل دولة مهمة من دول محور المقاومة وهي سوريا، فالربيع العربي الذي كان الأداة للدخول إلى بنية جسم الدولة السورية لتغيير نظامها السياسي الحاضن لقوى المقاومة في المنطقة ضد إسرائيل، فشل باعتراف خصوم سوريا.

أجندات إسرائيل الجديدة في التطبيع مع العرب لن تستفيد منها أمنياً ولاعسكرياً في ظل وجود "كريدور" إيران والعراق، وسوريا، ولبنان، وفلسطين مفتوحاً، تغذيه دولتان فاعلتان في المنطقة هما: إيران وسوريا، وإسرائيل تعلم ذلك. ولكن استفادتها اقتصادية ومعنوية، خاصةً بعد دخول السودان دولةً عربيةً كبرى إلى قطار التطبيع مع إسرائيل، وإن اختلفت مبرراتها عن دولتي الإمارات والبحرين في التطبيع مع إسرائيل، وفي مدى قوة بقاء الاتفاق ثابتا، خاصة في ظل معارضة شعبية وحزبية واسعة منه، وأن ما أقدم عليه الحاكمون في السودان لا يعززه مسوغ دستوري لتوقيع مثل هذه الاتفاقيات، وهذا بدوره سيجر السودان إلى صراع جديد بين "مجلس السيادة الانتقالي" الحاكم والشارع السوداني حزبياً وشعبياً، وتبقى الأجندة الإسرائيلية واحدة بالنسبة لثلاثة دول في الاستفادة الاقتصادية، أما أمنياً فهو لا يفيدها في شيء، وسيبقى التوتر سيد الموقف ما دامت هناك أراض عربية محتلة من قبل إسرائيل.

ختاماً نقول إنَّ منطقة الخليج لا تتحمل صراعات جديدة خاصة بعد أزمة "كورونا" ومبدأ الاشتباك الذي تدعو له إسرائيل دائماً مع إيران وتُغري به المطبعين الجُدد سيجر المنطقة إلى ساحة صراع تستنزف فيها الموارد البشرية والمالية، لذلك نستبدلها باستراتيجية التشابك السياسي والاقتصادي لا الاشتباك العسكري والأمني.