ناجي بن جمعة البلوشي
الحياة الجديدة التي كونت معها نمط إنسان عربي في دولنا العربية، وبها صار ذا عادة وسلوك ملتصق به كأنه صفة أو مكوِّن من مكوناته، بل ربما عضو من بين أعضاء جسده يحتاج لتمارين وطقوس تأهيل تنشطه وتهدئ من طلباته ورغباته الشهوانية، ولأنها انتقلت سريعا إلى نفسيته ونفسه التي تحكَّمت في الأمر بسيطرتها على الطلبات والرغبات الشهوانية حالها كحال أي صفة يكتسبها أي إنسان حتى وإن كانت ضارة به كالتدخين والسهر والكسل والسرقة؛ فلا يحيد عنها ولا يرتد إلا إذا طهَّر النفس وزكاها، ثم بعد ذلك باستطاعته التخلص من ذلك السلوك والعادة والصفة.
هذه الصفة انتشرت بين الطرفين إن كانوا مُقدمي الخدمات أو المستفدين منها، كل على حدة، ووفق ما اكتسبه فالموظف أصبح بارعا في خلق الصعوبات والعرقلات والحجج والأعذار أو الحيل وابتكار الفساد وصناعة طرق اكتساب المال العام وسرقته ونهبه...إلخ، هذه البراعة موجودة معه في أي موقع ومركز وجود ينضم إليه، فالذي كان بالأمس يقوم بتلك التصرفات في طاولة الموظف يمكنه أن يؤديها على أكمل وجه وهو في مكتب المدير أو من كان بالأمس في وزارة ما، فهو قادر عليها وهو في منصب القاضي.
كما أنَّ المراجعين الذي يُؤمنون بأنَّ طريقة إنهاء معاملاتهم وتخليصها لا يكون إلا من خلال التدخل الواسطي أو المحسوبية أو الرشوة أو الدلع والتدلع، فهم كذلك بارعون في كسبهم لأي موظف جديد في كل يوم إلى شبكتهم العنكبوتية التي ما يدخل فيها من أحد إلا فقد القدرة على الخروج منها، فهم بارعون عند مقدم القهوة، وهم بارعون عند محصل الضرائب، إذن بهذا يمكننا أن نقول إننا الآن في الفساد أو لنقل أهُم وصلوا إلى مرحلة الفساد النفسي، وبه أصبح كل هذا التصرف والسلوك والعادة أمرا مقنعا لهم، ويحملونه في عقولهم وقناعاتهم، بل ويعملون به في كل معاملاتهم!!
وهنا.. نستخلصُ أنه إذا كانت هذه نفسيات أبناء المجتمع، فإننا بذلك سنطلق على ذلك المجتمع أنه مجتمع فاسد، أو تخفيفا له سنقول انتشر في ذلك المجتمع الفساد، وبه نُوجِد قناعة فينا بأنَّ كل إنسان جديد يقترب من نواحي المقرات الحكومية هو من ذوي النفوس الجديدة أي أنه فاسد، وذلك لما فيه من فجوة نفسية حقيقية تُلامس عددا كبيرا من مشاعر الأمن الإنساني والاطمئنان النفسي التي تصل في أحيانها إلى فقدان الوطنية والبُعد عن الوازع الديني والدنيوي الأخلاقي أو قلة الثقة في الأداء الحكومي أو عدم الرضا الحقيقي عن الحكومة وممثليها، أو البُعد عن التقيد بمبدأ الشراكة في التنمية...إلخ؛ فالموظف مثلا يعتقد من داخله برغبته في صنع تلك الحجج والتعقيدات ليحصل على النفوذ والسلطة أو ليكون له شأن يدرج فيه اسمه عند كل من المدير والمسؤول وطالب الواسطة أو الراشي أو المتدلع أو مراد منه في تقليد كسب الأموال كما كسبها مسؤوله في ذات الوحدة... إلخ، ولا يهمه أي شيء مخالف لما يعتقده اعتقادا، كما أنه يرى أن كل مسؤول فاسد وكل مراجع لابد أن يكون فاسدا، إنه يراهم بمنظوره الشخصي المقتنع به قناعة تامة.
المُراجع كذلك يعتقد من داخله رغبته في محاسبة المسؤولين في الحكومة لفسادهم ومساءلتهم فيما تنفقه الحكومة وفيما حصلوا عليه لأنهم فاسدون، ويصل به الأمر إلى الحقد عليهم فهو جاهز للنيل من البلد والحكومة، وكل من يعمل فيها إذا حصل على أدنى فرصة تحريض، فهنا تصل به الحال بأنه لا يؤمن بالوطنية ولا الأرض ولا مكتسبات الوطن، طالما ظلت الحال كما هي عليه في أيدي اولئك المتغطرسين الفاسدين اللصوص؛ لأنه معتقد اعتقادًا تامًّا بأن ما يعتقده صحيحا ودليله على ذلك ما يراه في سلطة النفوذ وزيادة الأموال لدى أولئك الموظفين.
هنا أصبح المجتمع في فجوة نفسيَّة كبيرة تتولد منها قلة ثقة وسوء تفاهم وفهم قد تستغلها دول ومنظمات وأناس لهم بنود خاصة في بعض حالات الاستغلال، ومنها يُمكن أن تنفذ ما تريده من خطط في أي من الطرفين، ليكُون أداة فاعلة لتنفيذ تلك الخطط التي تريدها منهم كالمظاهرات والخروج إلى الشوارع أو غيرها من تصرفات.
كما أنَّ هذه الدول والمنظمات تستفيد من هذه الفجوة النفسية على الجانب الآخر في أنها تدفع بتصرفات الموظفين وفسادهم إلى أقلام إعلامية مأجورة أو منظمات وهيئات ومراكز تقييم، وبها توضع تلك الدولة لدى تلك المنظمات كمنظمات النزاهة ومكافحة الفساد أو مراكز التصنيف والتقييم أو غيرها؛ مما له شأن في تشويه صورة واسم ومكانة تلك الدولة لتصل إلى موضع الدولة الفاسدة، أو أنها دولة لا تستحق كل شيء.