كم جريمة ترتكب باسمك أيتها الحرية؟!

عبدالله العليان

تُمثل الحرية قيمة فكرية وإنسانية عظيمة في الحياة الإنسانية، ولا يختلف عليها أحد من الحضارات والديانات، باعتبارها من القيم المركزية اللصيقة بالإنسان الذي  كرمه الله عز وجل، من حيث أنها تخصُّ أهم جوانب حياته ومعيشته ورؤيته واختباره للدين والفكر والحياة، ومن خلال ذلك إحساسه بالحرية التي منحت له في هذا الاختيار دون قهر أو إملاء أو إكراه.

لذلك فهذه الحرية لا بد أن تكون معاييرها وضوابطها واضحة وجلية ونزيهة بعد هذا الاختيار، وعندما تتعدى إلى خصائص لصيقة بأمم وثقافات ترتبط بالآخرين وحقوقهم وقيمهم، لتكون الحرية تعرف حدودها ومجالها الشخصي بعيداً عن الآراء الفلسفية المتعلقة بالحرية الإيجابية، والحرية السلبية، وكما يقال عادة: "حريتي تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين"، وعندما تخرج عن حدود مجالها، فهنا تبدأ مضامين الحرية تستهجن وتنتقد، باعتبارها خرجت عن نطاق الحرية الممنوحة، خاصة عندما تستغل لمآرب وأهداف تبتعد عن محددات هذه الحرية العظيمة وغايتها النبيلة، فهنا تكون هذه القيمة ابتعدت عن أهم مدلولاتها في إشاعة روح الاختيار البعيد عن التجاذبات والانحيازات والتوترات، وتنعكس إلى ما هو سلبي وعنيف وخطير على السلام الاجتماعي والتقارب بين الثقافات، وتبعدها عن تلك الصورة الجميلة والرائعة لمعنى الحرية التي أشاد بها العلماء والمفكرون والفلاسفة من العصور القديمة.

قبل أيام قليلة، حدثت بإحدى مدارس شمال فرنسا حادثة دموية، راح ضحيتها أحد المدرسين الفرنسيين في إحدى هذه المدارس، عندما وزَّع على الطلاب رسوماً كاريكاتيرية مسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، فقام أحد الطلاب المسلمين الشيشانيين بقتل هذا المدرس، ثم قامت الشرطة الفرنسية بقتل هذا الطالب الذي قتل هذا المدرس، انتقاماً لمقتل هذا الأخير، ومع أن قتل المدرس غير مقبول، بغض النظر عن قيامه بتوزيع هذا المنشور الصحفي القديم المسيء الذي نُشر في صحيفة فرنسية قبل سنوات وجرت أحداث بسبب ذلك، إلا أن الأغرب والمثير: لماذا يتم نشر هذه الصور المسيئة والمستفزة لنبي أمة كبيرة؟ وأن أتباعها بالملايين في فرنسا، ناهيك عن بقية دول أوروبا؟ وهم أيضاً لا يقلون عدداً عن فرنسا، بل وما الهدف من هذا التوزيع على تلاميذ صغار السن؟ لماذا تتم تربية تلاميذ على هكذا ثقافة تختزل الكراهية لمجرد الاختلاف في الدين؟ أليس من العقل والحكمة والرؤية الحصيفة إعطاء دروس في المحبة والتسامح والعيش المشترك بين هؤلاء الطلاب؟ لماذا يتم غرس الكراهية والحقد وإثارة النزاع والفتن بين الطلاب؟

والشيء الذي يدعو للاستغراب أيضا أنَّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قال كلاماً غريباً وكأن ما قام به هذا المدرس هو الحق الذي لا حق غيره؟ إذ قال عن هذه الحادثة: "إن حادث الجمعة يحمل كل بصمات ’هجوم إرهابي إسلامي‘"، مضيفا أن الضحية "قُتل لأنه درّس حرية التعبير لطلابه"!! ولا ندري لماذا حرية التعبير ترتكز على الإساءة لرموز أمة وديانة بعينها؟ وما هي المصلحة والإيجابية في نشر وتوزيع هذه الرسوم المسيئة للنبي الكريم بين الفترة والأخرى، وهناك ما هو جدير بالتلقين للتلاميذ عن الحرية ومضامينها وقيمها في العدل والحق وعدم ظلم الآخرين والحقوق الإنسانية، بعيداً عن تكرار والإصرار على الرسوم الكاريكاتيرية.

لا شك أنَّ الحديث عن مسألة الحرية التي تركز على الإساءة لديانة أخرى ليس لها مبرر أبدا، وهذا التركيز الممنهج على الإساءة لنبي المسلمين، ربما له أهداف أخرى لا ندركها، ولذلك على الفرنسيين المسلمين والمهاجرين من العرب والمسلمين في فرنسا، أن ينتبهوا لأنفسهم من كل ما يستفزهم في دينهم أو قيمهم؛ ذلك أن الأمر قد يكون مُخيفاً مُستقبلا؛ فلذلك كما يقول الحديث الشريف: "الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق الناس بها"؛ فما يجري من تصريحات ومن توتر ومن تهديد، ومن القول بممارسة الإساءة بأنها حرية وإعطاء التلاميذ دروسا في هذه الرسوم، ربما كل ذلك هدفه غرس الكراهية، واعتبارها- أي الكراهية- دروسا في الحرية!!

ومن أغرب الأمور، أن تكون الحرية مجرد قذف وإساءة في الآخرين، فهل القذف والقدح باتا مرادفين للحرية؟ لماذا لا تقدم دروس في التسامح والتفاهم والتقارب والتواصل بين الثقافات والديانات، بدلاً من إثارة التنازع ودروس الكراهية والبغضاء؟ أين هي قيم الإخاء والمحبة التي غرسها السيد المسيح عيسى بن مريم؟ أين أضحت كلمة السيد المسيح عليه السلام: "من لطمك على خدك الأيمن أعطيه خدك الأيسر" أو العكس!

لا شك أن الإساءة والقذف لا تمت للحرية بصلة، ولو أن الأمر نقد للتطرف والغلو والإرهاب، فهذا مُمكن أن يتم نقده وكشفه، وفضح ممارساته؟ لكن تكرار الإساءة هذا ما لا يمكن تبريره، بل هو استفزاز وإثارة لافتة لنشرها بين الفينة والأخرى، والدفاع عنها بأنها تدريس للحرية؟!

والمسلمون لا يكتمل دينهم إلا بالإيمان بالسيد المسيح عليه السلام، وكل الأديان السماوية، والحديث الشريف عن الرسول الكريم: "من آذى ذمياً فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة". وهُنا نرى رؤية الرسول لأتباع نبي الله عيسى وما يجري من إساءات لنبي الإسلام، لندرك الفارق في التعامل.. لكن على المسلمين الذين يعيشون في فرنسا أن يكونوا أكثر وعياً بالظروف الراهنة؛ لأنَّ الأمر يبدو لافتاً تجاههم، وعليهم أن يدركوا المخاطر على وجودهم وعدم الانجرار للاستفزاز المستمر!