من الجمال ما قتل!

عبدالله الفارسي

القدر يسمح لك مرة واحدة فقط في حياتك، وإذا كان سخياً جداً معك فسيمنحك فرصة ثانية وأخيرة لرؤية امرأة جميلة وفاتنة وجهًا لوجه والجلوس في حضرتها فتتمنى أن تلمسها وتلتصق بها ولا تُفارقها حتى تخرج روحك وتتوقف أنفاسك.

حين تورطت وقررت السفر إلى أستراليا في العام 2000 لدراسة الماجستير توهماً مني بأنَّ الشهادة العلمية سترفع من راتبي بضعة ريالات وأنَّ التحصيل العلمي سيرفع من قيمتي بضع درجات كان ذلك من أسخف الأوهام وأكذبها التي مارستها في حياتي. في مدينة سيدني جمعتني الصدفة بشاب كوري جميل ولطيف ومُهذب لأقصى درجة التهذيب سكنا معًا في منزل سيدة أسترالية عجوز اسمها السيدة إنجلي (سأكتب لكم عنهما مقالا مفصلا لاحقا). قضينا مع بعض أياماً قليلة فربطتني بهذا الشاب الكوري علاقة وثيقة، وذات صباح طرقت عليه باب غرفته فوجدته مريضاً يتلوى من الحمى كثعبان صغير مضروب في رأسه.

فحملته إلى المستشفى وقرر الطبيب بقاءه هناك بضع ساعات حتى تنخفض حرارته ويتوازن جسده. وُضع صديقي الكوري في غرفة مفردة وخضع لعدة فحوصات طبية وكانت تشرف عليه ممرضة أسترالية فاتنة. أول ما رأيتها كاد أن يغمى علي من جمالها وبهائها وفتنتها؛ إنها ملاك من ملائكة الجمال.. كائن فريد نادر ذات عينين ساحرتين بلونين مختلفين بياضها ناصع ينافس الثلج نصوعًا ونقاء شعرها الحريري الأصفر معقوفا للخلف كذيل مهرة جموح وأنفها الصغير المُستقيم مرسوم ببراعة سماوية غاية في المهارة والإبداع ولها رائحة شذية أريجها أريج زهرة برية. إذا نظرت إليها سلبتك جزء حميماً من روحك وإذا نظرت إليك أخذت روحك كلها معها. لقد بهرني جمالها درجة الذهول فتسمرت في مكاني فاغرا فمي كغراب صحراوي.

تمنيت في تلك اللحظة أن أكون أنا المريض، تمنيت أن أكون أنا المُمدد في ذلك الفراش الأبيض وليس صديقي الكوري. لقد حسدت صديقي الكوري المسكين على مرضه في تلك الساعة. قالت لي بصوت رقيق ناعم هطل على روحي الجافة القاحلة كخرير ماء جبلي رهيف: لا داعي لوجودك هنا سيدي فصديقك لن يستيقظ قبل 4 ساعات من الآن.

قلت لها: المشكلة ليست في صديقي الآن أيتها الممرضة الفاتنة صديقي نائم مغمض العينين. المصيبة أنني أنا الذي أصبحت مريضاً أنا المريض الذي يحترق أمامك اللحظة أنا الذي أتوجع ألا ترين كيف أرتعش وأهتز وأنتفض!! فأرجوك اسمحي لي بالبقاء هنا بجانب صديقي لأعيش ساعة أو ساعتين قبل أن أذهب لمُمارسة الموت في الخارج. فضحكت بغنج وضحك معها صدري وبطني وأمعائي وكل مصاريني الغليظة والخفيفة. فهمت الممرضة الفاتنة هذا العبث الشبابي وقالت لي: إذن أجلس بهدوء ولا تحلق بعيدًا عن الأرض أيها العربي. قلت لها: شكراً لك سأحلق في حدود طاقتي وحسب قدرة أجنحتي على التحليق والطيران. وحين طلبت مواعدتها والخروج معها قالت لي: ما أسرعكم أيُّها العرب تعشقون بسرعة كبيرة وخلال دقائق معدودة!! فقلت لها: نعم نحن بشر مميزون، نعشق من النظرة الأولى نحن أمة سريعة العشق فجائية الحب نذوب عشقاً من الوهلة الأولى ويغمى علينا من اللمسة الأولى ونوقع على صكوك الموت من أجل المحبوب من اللقاء الأول، فما رأيك أن نلتقي في وجبة عشاء في أي مساء تشائين لأوقع لك صكاً عربياً متيناً يوثق العلاقات العربية الأسترالية إلى الأبد؟

بعد دردشة طويلة معها وافقت أخيراً على الخروج معي لتناول وجبة عشاء. كنت أتمنى أن أجلس معها في مكان آخر غير هذا المكان المقرف، كنت أتلهف لأملىء عيني من جمالها وأسقي جفافي من فتنتها. أخذت رقم هاتفها وضربت معها موعدا ذات مساء في أحد مطاعم سيدني، ومن شدة وخزة الشوق ولسعة اللهفة لرؤيتها وصلت إلى المطعم متقدمًا عن الموعد بأكثر من ساعة. للأسف نحن العرب غالبًا لا نأتي في الموعد المحدد لم يعلمونا كيف نضبط ساعاتنا، فالساعة بالنسبة لنا ليس لأجل الوقت وتحديده واحترامه. إننا نقتني الساعات لأجل جمالها على معصمنا لأجل لونها وتناسقها مع بشرتنا لأجل بريقها ولمعانها ولأجل المفاخرة بسعرها والتشدق بصانعها والتباهي بمصنعها.

قررت الانتظار وعدم دخول المطعم وفضلت التسكع في الشارع المجاور للمطعم والترنح أمام المارة كقرصان برتغالي ثمل ضل طريقه إلى المرفأ. وبعد نصف ساعة قررت أن أدخل المطعم فدخلت وجلست أنتظر الفاتنة "كاثي". وصلت نجمتي الفاتنة في موعدها بالضبط دخلت علينا كأنها ملاك نادر باهر لا ينقصها سوى جناحين أبيضين لتطير بهما فوق الفضاء وبين السموات.

لفتت كل الأضواء أذهلت كل العيون وأجبرت كل الهامات على الارتفاع والانبهار. جلست أمامها كأنني مخبول مسحور مشلول مسلوب الإرادة. كنت غارقًا في عينيها الزرقاوين الخضراوين الساحرتين؛ كانت عيناها تطلقان نحوي بريقا غريبا وشعاعا عجيبا إنها موجات السحر الغامضة وأشعة الجمال الخالدة.

تسمرت أمامها تمثالا جامدا جاثما لا حراك لي خاشعا متبتلا أمام هذا الجمال الملائكي المجنون الذي ورطت قلبي الهزيل معه وأقحمت روحي الهشة به وأرهقت عيني الصغيرتين الضعيفتين ببريقه.

جلست أمامها مسدلاً كل ستائري ناكسا كل راياتي خافضا كل أعلامي واضعاً كرامتي تحت حذائي الأنيق باصقاً بمبادئي على منديل ورقي رخيص كان ملتصقا بيدي! لا أعرف ماذا حصل بالضبط في ذلك المساء.

لكن أخبرني صديقي الكوري بأنَّ "كاثي" أحضرتني إلى البيت وأنا في حالة شبه إغماء لقد أحضرتني إلى المنزل مسنودا على كتفها كجندي جريح أصيب بطلقة في صدره. ووضعتني في سريري ومسحت عرقاً كان يسيل من وجهي وطبعت قبلة على خدي ولم تتركني حتى تأكدت أنني نمت وأغمضت عيني.

بعدها أقسم لي صديقي الكوري: بأنني لم أستيقظ إلا بعد ثلاثة أيام!

لقد قتلتني تلك الفاتنة الأسترالية قبل أن أسرق قبلة منها ودون أن أتمكن حتى من عناقها!!

بعد هذه الحادثة تركت أستراليا خوفاً على قلبي الرقيق من الانكسار وحفاظا على روحي الهشة من التهشم والإندثار.

********************

ملاحظة: أنا من مواليد العام 1968 وحين سافرت إلى أستراليا كان عمري 32 سنة، أي أنني كنت أحمل شيئاً من الوسامة، وكان شكلي مقبولاً إلى حد ما وبدرجة مقبولة!!