المعضلة الاجتماعية (1- 2)

عبيدلي العبيدلي

"لا يدخل شيء ضخم حياة البشر من دون لعنة". هذه العبارة الموجزة لفيلسوف الإغريقي سوفوكليس الغنية فيما تحمله من معنى هي المدخل الذي خاطب به فيلم "المعضلة الاجتماعية" (The Social Dilemma) مشاهديه. ومن اللحظة الأولى من مراحل عرضه، نجح هذا الفيلم الوثائقي الذي كان من ضمن باقات محطة "نتفليكس" (Netflix) القصصية، في تبوء مركز متقدم بين الأفلام العشرة الأولى التي تنال إعجاب متابعي تلك المحطة. ولو تمعن المشاهد في مقولة سوفوكليس، فربما يجد نفسه يستبدل عنوان الفيلم بـآخر يدعو إلى "لعنة منصات التواصل الاجتماعي الإلكترونية". 

أثار هذا الفيلم الذي يمكن تصنيفه في فئة الأفلام الهجينة، حيث كان هناك مزج سلس وممتع بين الأفلام التوثيقية، وتلك الروائية. فأبطال الفيلم، وهم من شغلوا مناصب عليا في شركات التكنولوجيا، مثل غوغل، أو تلك المتخصصة في منصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك. جميع هؤلاء جعلهم مخرج الفيلم جيف أورلوفسكي يرون تجربتهم الحية التي عاشوها وهم يبرمجون او يبنون خوارزميات تلك المنصات التي تضع من يستخدمها تحت رحمة إغراءات لا يعيها يزود من خلالها جهات لا يعرفها بمعلومات غنية تكشف عن معالم شخصيته بتفاصيلها، التي ربما يغيب البعض منها حتى عن صاحب الشخصية ذاته.

تدور أحداث الفيلم، وتطور بنائه الروائي إن جاز القول، على معلومات داخلية يفصح عنها، ويكشفها أولئك المبرمجون الذين عملوا في تلك الشركات العملاقة، وهدفت إلى شد اهتمام كتل اجتماعية فاقت أعدادها عشرات الملايين، ونجحت في أن يقعوا، وبمحض إرادتهم، في شرك الإدمان على تلك المواقع، وفشلهم في مغادرتها، رغم الجهود التي بذلوها هم بشكل مباشر، أو بمساعدة أصدقاء أو حتى بعض أفراد أسرهم، في الخروج من براثن ذلك الإدمان.

وكشف الممثلون، وهم العاملون في شركات المنصات الاجتماعية، الطرق التي تسلكها تلك الشركات من أجل إحكام قبضتها على أولئك المدمنين، وبذل كل ما في وسعها لضمان تكاثرهم، وتكاثر الساعات التي يقضونها على محتوى تلك المنصات، بسرعة فلكية. ونوه أولئك الممثلين بالحاجة ذلك التغيير الذي لا يمكن أن يحدث "إلا إذا حدث ضغط جماهيري يهدد المكاسب المادية الطائلة التي يجنيها أصحاب تلك الشركات."

الجميل في ذلك الفيلم، أنه يكشف، بخلاف ما هو رائج، أن تلك الشركات تحقق مداخيلها الضخمة والرئيسة، كي لا نقول أرباحها، ليس من بيع مساحات الإعلانات التي تكتظ بها صفحات مواقعها، وإنما عبر بيع سلوك زوار تلك المواقع، ومستخدمي الخدمات التي تقدمها. وكلما تنامى طول الفترة الزمنية التي يقضيها الزائر لتلك المواقع، كلما ارتفعت فرصة محركات الموقع، وخوارزميات الذكاء الاصطناعي على جمع أكبر كم من المعلومات عن سلوك ذلك الزائر، الذي يتحول في نهاية الأمر إلى "منتج فريد من نوعه" تتولى تسويقه تلك المواقع.

نلك المعلومات تتجاوز تلك البيانات الأولية التي يطلب من زوار الموقع تسجيلها كي يتسنى لهم الولوج إلى مكونات الموقع، لتبلغ ما يمكن وصفه بدراسة، أو رصد- كما يرد على لسان أكثر من ممثل- سلوكيات ذلك الزائر. ذلك الرصد الذي تقوم به الخوارزميات، وليس البشر يبيح معرفة ما الذ يستهويه ذلك الزائر، ويشد اهتمامه. بعد ذلك تأتي المرحلة الثانية، وهي قياس الوقت الذي يمضيه متتبعا ما أثار إعجابه، أو ولد اشمئزازه. أي منهما يكشف ما يخفيه ذلك الزائر حتى عن أفراد من أقربائه أو بين أصدقائه.

ولا يقف جشع تلك الشركات عند مجرد جني الأرباح من خلال تحول ذلك السلوك إلى سلعة يجري ترويجها بشكل معقد، بل نراها – كما يروي أبطال الفيلم- تنزع نحو إخفاء الحقائق، وترويج الإشاعات الكاذبة، وأحيانا اختلاق تزوير المعلومات وترويجها، طالما يتحول ذلك التزوير إلى أرباح طائلة تحققها من وراء المساحات الإعلانية، أو التنبيهات المتكررة التي تعج بها مواقع منصات التواصل الاجتماعي، التي تتحول بسلعة تبحث عنها دوائر معينة.

ليس المقصود هنا جني الأرباح فحسب، بل محاولة قولبة سلوك، ومن ثم شخصية ذلك الزائر الذي تم التعرف على ميوله من خلال سلوكه على مواقع تلك المنصات.

الأسوأ من ذلك هو عندما تكتشف تلك المنصات شخصية زائرها الحقيقية، ومن ثم درجة تأثيره السياسي أو الاجتماعي في محيطه الذي ينشط فيه. حينها تتحول المنصة إلى ما يشبه العنكبوت التي تسيج زائرها، من خلال قصفه بكميات مهولة من المعلومات المصاغة بطريقة ذكية تسمح للمنصة بالسيطرة على سلوك ذلك الزائر في حياته اليومية العادية، والتحكم في عاداته.

في هذه المرحلة تبدأ عملية عزل الزائر الذي يتحول إلى أسير الفقاعة الإلكترونية التي طوق نفسه طوعا بها، وعزل نفسه عن العالم بواسطة جدرانها السميكة الصعبة الاختراق إلا من قبل خوارزميات تلك المنصة التي اقتنصته. وتحول بفضل ذلك إلى إنسان مسير تحت تأثير مخرجات خوارزميات البرمجيات التي تعقبته، ودرست سلوكه، و"نمذجته" على النحو الذي تختاره هي لضحيتها، التي باتت أسيرة تلك الفقاعة، وغير قادرة، وبمحض ارادتها على الخروج من براثنها.

عند هذه المرحلة تبدأ مخرجات خوارزميات الذكاء الاصطناعي تمارس دورها في السيطرة على ضحيتها، وتكييف سلوكه على النحو الذي تريده هي. ومن الخطأ الاستخفاف بقدرات تلك الخوارزميات. فوفقا لدراسة صدرت مؤخرا عن جامعتي أوكسفورد البريطانية وييل الأمريكية "هناك احتمال بنسبة 50% بأن يتفوق الذكاء الاصطناعي على الذكاء البشري في جميع المجالات في غضون 45 عامًا، كما من المتوقع أن يكون قادرًا على تولي كافة الوظائف البشرية في غضون 120 عامًا. ولا تستبعد نتائج الدراسة أن يحدث ذلك قبل هذا التاريخ". 

في هذا السياق، وبدورها تتحدث الباحثة بمعهد مستقبل البشرية في جامعة أوكسفورد، ورئيسة فريق البحث- لـ "للعلم": كاتيا جريس، مشيرة إلى أنه "إذا كانت القيم البشرية معقدة، فإن الذكاء الاصطناعي لن يكون بوسعه رعاية كل ما يهتم به البشر، وإذا كان له كثير من النفوذ، فإن هذا يمكن أن يؤدي على المدى الطويل إلى مستقبل لعالم مخالف لاختيار البشر".

وكي يكون في وسعنا تقدير حجم الخطورة التي تمثلها منصات التواصل الاجتماعي على السلوك الإنساني، يمكن العودة لما قاله مخرج الفيلم جيف أورلوفسكي، الذي بات يؤمن أن "أخطار فيسبوك، وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي، لا تقل خطورة اليوم عن الكوارث التي تشهدها الطبيعة في لحظتنا الراهنة".