د. عبدالله باحجاج
كل الظروف مُواتية، وكل المقومات متوفرة لصناعة الاستثناء في مجمل العلاقات بين السلطنة والكويت في ظل عهدين سياسيين جديدين، ورثا أرضية الاستثناء الفريدة في زمانها وعصرها، وهي تحتاج إلى إرادة سياسية متجددة في بواعثها، وجديدة في مساراتها الشمولية، وفي مفاهيمها المؤطرة لها، يمكن أن تشكل نموذجا للتعاون التكاملي لمنظومة دول مجلس التعاون الخليجي، ومن خلاله سنُراهن على فتح القناعات السياسية الخليجية، لأنها ستكون تجربة متكاملة المصالح والمنافع، ومحصنة بسياجات المصير المشترك، ومتحررة من قلق وخوف التاريخ والأطماع الجغرافية الإقليمية، ومرسخة أركان الوجود والمصير في عالم متغير.
ومصير بهذا الحجم، لا يمكننا الرهان فيه على أداء الفاعلين في كلا البلدين، وعلى مبادراتهم الفردية، فهي ستكون ناقصة قوة الدفع السياسية طوال مسيرتها، وسيجانبها التردد وفقدان البوصلة حتى لو توفرت الرغبة، مثالنا هنا مطالبة وزير التجارة والصناعة وترويج الاستثمار مُؤخرا عبر تويتر وزير الخارجية باستخدام قوة الدبلوماسية العمانية في جذب الاستثمارات، فهل تويتر المنصة المثالية لمثل هذه المطالبة؟ وأين دور الترويج الاستثماري للوزارة؟
لذلك يُعد توفر الإرادة السياسية المتجددة/ الجديدة بين البلدين، المدخل الأساسي لتحول استراتيجي في علاقات البلدين، على أن يعقبها تشكيل لجنة خاصة من كلا البلدين برئاسة سياسية رفيعة المستوى، يُشارك فيها ممثلون عن المجتمع العماني والكويتي والقطاعين الخاص والحكومتين لصناعة الاستثناء من منظور تكامل التعاون بين البلدين، وعلى قاعدة اعتماد المصالح المتبادلة، والاعتداد بأولويات البلد الذي قد يواجه تحديات آنية، وينتابه منها مشاعر القلق، والتحدي الأكبر أمام مسقط والكويت ينصب الآن حول كيف يمكن إقامة شراكة استراتيجية طويلة الأجل؟
شراكة تؤأمة، بحيث يمكن أن تعتمد كل دولة على الأخرى في المصير المشترك الذي لم يعد أمنيًا وعسكرياً فقط، وإنما اقتصاديا وصحيا واجتماعيا، لذلك فالمصلحة المشتركة ينبغي أن تتجه على كل الصعد، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والأمنية، وهذه الفكرة نطرحها الآن وبقوة حتى لا يتم تفويت الفرصة المُماثلة بين السلطنة وقطر التي كانت تنتجها الأزمة الخليجية التي اندلعت عام 2017، وقد كان وراء فشلها عدة عوامل، بعضها انتفى الآن، كالنخب الوزارية السابقة، وما تبقى منها يُمكن تجاوزها بالإرادة السياسية الجديدة وبفاعلين جدد ينبغي أن يكون هاجسهم الأول تحقيق النجاح لرؤية 2040.
وقد فتحت وفاة أمير الإنسانية الأمير صباح الأحمد الجابر الصباح هذه الآفاق، وحركت الوعي السياسي المقارن لتأسيس المرحلة الجديدة في علاقات البلدين من منظور التحديات الجيوسياسية والجيواستراتيجية لكل دولة منفردة ومجتمعة من جهة، ومن الثقة المتبادلة التي تم تأسيسها خلال مرحلة الراحلين، السلطان قابوس والأمير صباح- طيب الله ثراهما- من جهة ثانية.
فمن يقف على السيكولوجيات الاجتماعية العمانية التي تأثرت بوفاة أمير الإنسانية من قبل المواطنين غير المؤطرين الذي عبروا عنها بصورة تلقائية وعفوية؟ خاصة النساء وكبار السن من مختلف ولايات السلطنة، بما فيها منطقة الشويمية التي كان الأمير الراحل يقصدها في السنة مرتين.. سيخرج منها بنتيجة واحدة، هي أنه ينبغي أن يكون لهذين الشعبين وهاتين الدولتين، علاقات عميقة واستثنائية، ومتبادلة ومصيرية، تُعزز مشاعر وعواطف الشعبين في ظل تحديات جغرافيتهما السياسية على الصعيدين الداخلي والخارجي، وفي ظل الأزمات المختلفة التي أصحبت سمة العصر، بحيث يمكن أن تكون السلطنة قوة إضافية متعددة الأغراض وذات ثقة عالية للكويت، وتكون هذه الأخيرة قوة مُماثلة للسلطنة.
الكل تأثر بوفاة أمير الإنسانية، والتأثير له أسبابه، ومن بينها أن محبة هذه الشخصية كانت تلقائية، أي مزروعة في القلوب، فمن يعمل الخير للإنسانية في كل مكان في العالم، فقبوله يعبر حدود كل القلوب مهما كانت جنسية كيانه أو مذهبه أوعقيدته السياسية، إنسان سخر ذاته للسلام، وسعى بين الاشقاء لواد الشقاق والخلافات، وجمع العالم في وطنه من أجل الجوعى في أفريقيا ومناطق الحروب والنزاعات، فكيف لا تحبه الشعوب من قلبها، والأولى بمحبته الشعوب التي تنتمي لقوميته ودينه.
وكيف بمجتمعنا العماني ألا يكون حالة الاستثناء لهذه الشعوب العربية والإسلامية خاصة بعد أن جنحت إنسانيته على سواحل بلادنا المطلة على بحر العرب، واتخذها مكاناً آمنا لذاته بعد عناء الحكم ومتاعب ومشاغل السياسة الإقليمية والدولية، فالمكان آمن ببشره وببحره رغم إطلالته على البحار المفتوحة، فمحبة الراحل- طيب الله ثراه- لهذا المكان، زادت محبته عند كل العمانيين، كما أن بين الشعبين الشقيقين محبة تاريخية متوارثة بين الأجيال، غرسها الربابنة الذين كانوا يجوبون مياه الخليج متنقلين بين البلدين كمواطنين وليس كأجانب، غرسها جيل الخمسينيات والستينيات الذين استضافتهم الكويت، وفتحت لهم مصادر الرزق والتعليم، فاندمجوا وتصاهروا، وأصبحت الكويت مسجلة في سجلات ميلاد أولادهم وفي ذاكرة آبائهم، تنزل دمعاتهم دون أن يسيطروا عليها، عندما يتم ذكر الكويت أو تشتكي الكويت من ألم أو وجع، كما حدث لها أيام الغزو، وكيف انتفضت قوى بلادنا الخشنة والناعمة للوقوف بجانب الأشقاء في محنتهم.
وكل ما ذكرناه يوفر البيئة التأسيسية لماهية العلاقات التي أشرنا إليها سابقا، والمتأمل في واقع العلاقات عامة والاقتصادية خاصة بين البلدين، يرى أنها في الحدود الدنيا، فلم ينجح مسؤولو البلدين في نقلها إلى المستويات التي تخدم الأمان لكلا البلدين، فالكويت في إطارها الداخلي والجيواستراتيجي- والجيوسياسي، تواجه تحديات كبيرة، كشف عنها كورونا والأحداث السياسية والأزمات المالية الجديدة/ القديمة التي مرت بها في إطار تعاطيها الإقليمي والعالمي.
وإذا ما وقفنا عند بعض المفاصل، فالكويت تعاني من قنبلة سكانية، حيث إنَّ 70% من سكانها أجانب، وكذلك اعتمادها الكبير على النفط، وتعيش في محيط متوتر، وقد بينت الأزمات أنَّ الكويت تحتاج وسريعا إلى القيام بعملية إصلاحات بنيوية للحافظ على مستقبل أمنها القومي، وكذلك الحال بالنسبة للسلطنة مع اختلاف حدة التحديات الجيوسياسية، وتصحيحها في كلا البلدين، يمكن أن يكون في إطار التعاون التكاملي، والتوأمة الديموغرافية والاقتصادية، فإطلالة السلطنة على بحر العرب المفتوح للملاحة البحرية والبعيد عن مناطق التوترات والحروب، من خلال مينائي الدقم وصلالة، يفتح المجال لإقامة كل أنواع الصناعات المشتركة في السلطنة، ليس في منطقة الدقم فقط والتي للكويت فيها- أي الدقم- ثلاثة مشاريع عملاقة، تأتي في مُقدمتها مصفاة البترول، ومجموع البتروكيماويات.
وإنما في كل محافظات السلطنة التي تزخر بالفرص الاستثمارية الواعدة والآمنة والمضمونة.. ومن خلال مشروع شبكة القطار التي ستربط المناطق الصناعية والحرة بموانئ السلطنة، سيصبح ميناءا الدقم وصلالة في متناول هذه الشراكة، فعن طريقهما ستتمكن منتوجات الشراكة التصديرية من الولوج إلى مختلف أسواق العالم، وبالذات الهند وباكستان وأفريقيا على مدار العام، وبذلك ستتمكن الكويت من حل إشكالية الاعتماد الأحادي على النفط، ومن تأمين الاستثمار طويل الاجل.
وهناك مجالات استثمارية كبيرة ومتعددة تنتظر هذه الشراكة، فالاستثمارات في رؤية عُمان 2040، تخصص ما نسبته 80% للاستثمارات الخاصة، المحلية والأجنبية، وبالتالي هنا تكمن مصلحة السلطنة الأولى في الشراكة مع الأشقاء في الكويت، فهناك قطاعات حيوية متعددة تنتظرها، كالصناعة بمختلف أنواعها مثل إقامة المدن الصناعية والأمن الغذائي وصناعاته المختلفة والملاحة والنقل والتخزين والتطوير العقاري... إلخ.
وستقود هذه الشراكة البلدين إلى اندماجات مشتركة في مختلف المجالات، واستغلال الفرص المشتركة، والتفكير بعقل واحد في حل مشاكل وإشكاليات كل طرف، فلو فتحنا نافذة صغيرة أخرى على الماهيات التي تقلق البلدين، فهناك مثلاً أزمة الباحثين عن عمل، فيمكن من خلال هذا المصير المشترك، تدوير الموارد البشرية بينهما بتغطية النواقص أو لتصحيح الاختلالات التي تميل لديموغرافيا غير آمنة في كل المجالات دون استثناء بما فيها الأمنية والعسكرية، خاصة وأن نظام التأمينات الاجتماعية والتقاعد مطبق بين كل دول مجلس التعاون الخليجي.
والشيء نفسه، يمكن تحقيقه على صعيد إعادة التركيبة السكانية في الوقت الذي لن تتمكن الكويت من الاستغناء عن الوافدين، لكنها بإمكانها من خلال تدوير الموارد البشرية بين كلا البلدين تعديل الكثافة السكانية فيها باتجاه التوازن والتخفيف من طغيان ديموغرافيا معينة على مستويات هذه الكثافة، كما يمكنها الاعتماد على الديموغرافيا العمانية لتبديد هواجسها الجيوسياسية المُقلقة.
ما كشفته وفاة أمير الإنسانية من وحدة المشاعر والعواطف وعمقها بين الشعبين الشقيقين، لن يترك لرجال السياسة والاقتصاد في كلا البلدين من خيار سوى إعادة بوصلة الاستثمارات العامة والخاصة الكويتية إلى بلادنا لتعزيز التعاون التكاملي والاعتماد التبادلي، استغلالا للممرات العمانية الواقعة على البحار المفتوحة، وهذه النقلة المأمولة تحتمها كذلك طبيعة التحولات المُعقدة في دور الدولة الخليجية الجديد بعد انتهاء عصر النفط دون رجعة، وتوجهها نحو عصر الجبايات الذي يجعل من جيوب المواطنين مصادر دخل للموازنات السنوية، مما يظهر لنا هنا النقلة الجديدة "المقترحة" للعلاقات الشمولية بين البلدين، بأسسها ومفاهيمها ومبادئها الجديدة ، كبديل ناجح ومضمون للتخفيف من وطأة عصر الجبايات، وتأثيره على أوضاعهما الاجتماعية.
هل نحلم بهذا النوع من العلاقات بين البلدين الشقيقين أم أننا نطالب بالممكن في طار البرغماتية وإن كانت من مداخل عواطف ومشاعر شعبية؟ وهى ليست حاكمة لها، وانما معززة لها وضامنة لديمومتها، وقلما تتوفر في علاقات الدول الاستثمارية، فهل نستغلها في اطار ظرفية الزمان وتقاطعاته السياسية الثنائية وتحدياته الجيوسياسية أم نفوتها؟ تناقشنا في هذه القضايا مع مسئول كويتي رفيع اثناء تعزيتنا له بوفاة أمير الإنسانية، ووجدناه يحمل الأفكار نفسها، ولديه من الحماس ما جعلنا نفتح هذا الملف بصوت مرتفع خاصة وان البلدين في عهدين سياسيين متجددين ومنفتحين ويواجهان تحديات متشابهة وأخرى مختلفة، وبشراكتهما التكاملية الشاملة ستكون خياراتهما أفضل بكثير من العمل بمعزل عن بعضهما البعض.