نعمة الجهل

عبدالله الفارسي

إذا كُنت تَعْلَم فتلك مُصِيبة، وإذا كُنت لا تعلم فالمصيبة "أهوَن"!!.. بعد مُعَاناة مريرة مع المعرفة، اكتشفتُ أنَّ الجهل نعمة عظيمة، وأنَّ اللاوعي مُتعة لذيذة.

لذلك؛ كم أتمنى الآن لو كنت جاهلا كبيرا جاهلا عظيما. كم تمنيت لو لم أتعلم الكتابة ولم ألهث وراء الكتب والعلم والقراءة؟ كم تمنيتُ لو كنت إنسانا ساذجا غبيا لا يعرف شيئا مما يدور حوله، لا يميز بين الظلال والضلال، لا يفرق بين النور والظلام، لا يستوعب ما يدور حوله من مصائب، ولا يُدرك خطورة ما يحوم حوله من فتن ومخاطر!!

قبل فترة، خرجتُ في رحلة مع بعض الشباب إلى السيوح والبراري، كان بانتظارنا دليلنا في الرحلة أحد الشباب البدو، شاب في الخامسة والعشرين، شاب بدوي بامتياز، بالكاد يعرف أن يفك الخط، يعمل سائقا في شركة طابوق صغيرة يتقاضى 250 ريالا في آخر الشهر، ويبتهج براتبه أيما ابتهاج.

ويعود إلى بيته مُحمَّلا بأكياس الطعام.

يتقاضى الفتات، يكفيه لسد رمقه، ويمنع عنه وعن أسرته شبح الجوع.

أجمل ما أعجبني فيه أنه لا يعرف أي شيء عن أي شيء، لا يعرف شيئا عن الدولة لا يعرف شيئا عن الحكومة، لا يعرف شيئا عن الحروب التي حَوله، لا يعرف شيئا عن الفساد، حتى لا يعرف ما معنى كلمة "فساد"، ولا يفقه دلالاتها وفداحتها وحجم كارثيتها!

كم غبطت هذا الرجل، كم تمنيت أن يُعطيني دماغه الأبيض الفارغ، وأعطيه دماغي الملغَّم بالسموم والسواد والأمراض.

كان ينام أينما أظلم عليه الليل، يفترش التراب ويلتحف السماء، وينام علاقته بالتراب علاقة حميمة، وصداقته مع النجوم صداقة متينة.

لا يعرف شيئا عن الحكومة حتى لا يعرف ما معنى كلمة "حكومة"، لا يفهم معنى هذا المصطلح العظيم الفخم الجميل.

لا يعرف اسم وزير واحد من وزرائنا، لا السابقين ولا اللاحقين بهم بإحسان إلى يوم الدين، لا يعرف وزيرَ المالية، ولا يعرف وزيرَ العمل والأعمال والريادة، ولا يعرف وزيرَ التجارة ولا يعرف وزيرَ الاختراعات والصناعة، ولا يعرف وزير الإبداع والبراعة.

لا يعرف سوى "مُحمَّد عظيم" الباكستاني ذي اللحية الطويلة والابتسامة الجميلة، صاحب مصنع الطابوق الذي يعطيه راتبه نهاية كل شهر، ولا يخصم عليه أيام هروبه وساعات غيابه، ولا يعرف شيئا عن أوضاع البلد، لا يعرف شيئا عن مشاكلها ولا يعرف مصائبها، ولا يعرف شيئا عن حاضرها المخنوق ومستقبلها المجهول، لا يفهم معنى الهيكلة الوزارية، ولم يسمع بالمجالس العمومية، ولا يعرف المقصود بالهياكل الإدارية ولا الهياكل العظمية.

لم يَسمع في حياته عن وزارة الخدمة المدنية، ولا يعرف شيئا عن وزارة النفط وبراميلها الثقيلة. لا يعرف صناديق الاستثمار، ولم يرَ مناديس الادخار، ولم يخبره أحد بصندوق الاحتياط، ولم يسبق له أن قعد فوق أحد صناديق التقاعد.. لا يعرف شيئا عن تضخُّم المال وترهُّل الاقتصاد وكساد البلاد والعباد.

لا فرق معه بين "التعليم عن بُعد" و"البُعد عن التعليم"!!

لا يعرف كلمة المستقبل، ولا يفهم معناها، ولا يكترث بها، ولا تعيش في رأسه، ولا تعشعش في قلبه.

لا يشاهد قناة "بي.بي.سي" الكاذبة، ولا إم.بي.سي التافهة، ولا يتابع سي.إن.إن الفاشلة، ولا يستمع لتحريضات قناة الجزيرة الفاضحة.

لا يقرأ جريدة "الرؤية"، ولا يتصفح جريدة "عُمان"، ولا يعرف شيئا عن صحيفة "الشبيبة"!

لا يهمه شيء سوى أكل يومه وطعام أطفاله وعلف ناقته وحشائش أغنامه. ولتذهب الدنيا بعد ذلك إلى الجحيم.

بَعِيد كل البعد عن حماقات "تويتر" وتفاهات "فيسبوك" وأكاذيب "جوجل".

العقل مصيبة كبيرة، الوعي كارثة عظيمة، والتفكير معاناة وألم، والمعرفة جلد للعقل، والعلم ضرب للروح بالسياط والحديد والنار.

هل هناك نعمة افضل من نعمة "عدم العلم"؟ هل هناك عطاء أجمل من الجهل؟ هل هناك متعة أروع من فراغ العقل؟!

ألم يَصدُق المتنبي حين قال:

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله

وأخو "الجهالة" في الشقاوة ينعم

هذا البدوي الفقير يعيش في راحة بال كاملة مطلقة، رغم شظف العيش وسوء المعيشة، إلا أن عقله الفارغ ودماغه البسيط يحقنانه بإكسير السعادة والرضا والسلام النفسي والتناغم الروحي مع الحياة كجزء أصيل من أجزائها الأساسية، إنَّه مُنسجم مع الكون بفطرته الخالصة ونقائه المثالي وبساطته الفطرية وعقله البسيط.

إنَّه يجهل كلَّ جهالات الكون، ولا ينصت لكل سفاهات العالم، وهذا هو سر سعادته وراحته وصحته واطمئنانه.

اللهم ارزقني نعمة الجهل، واجعل دماغي فارغا، تصفر فيه الريح، ويتخلله الغبار، ويغسله الندى، ويطهره المطر.