سُلطة المستقبل

فاطمة الحارثية

 

إننا نستهلك طاقة عظيمة في مسائل المُستقبل، حتى بلغ لدى البعض الاستغراق فيها وتبرير كل شيء لأجلها؛ تدبر، إذا ورد حديث عن المُستقبل وكان عليك أن تُعبر عنه في جملة بسيطة أو مفردة تعكس صورته الحقيقية فماذا ستقول؟ أو ما الذي قد يرد على ذهنك أو يخطر في خيالك؟ البعض منِّا قد يُجمع أن الكثير، إن لم يكن كل هواجس عواطفنا وانفعالاتنا وسلوكياتنا متعلقة بالقادم من الأمور، مثلا الخوف من أن نُحرج، أي حدث لم يحدث وربما يحدث أو لا؛ التوجس من ردود أفعال الآخرين، توقعات التفاعل أثناء الأنشطة المختلفة، تصور سير وتقدم وتيرة الأعمال مثل الخطط والاستراتيجيات، مُحاكاة الأنظمة والمعطيات وغيرها من الأمور الروتينية في حياتنا اليومية؛ وبالمثل توقع القادم من انفعالاتنا وشعورنا وعواطفنا اتجاه المواقف المُختلفة، والفجوة بين قبولنا لها ومقاومتنا، مثل الأمل والتفاؤل والحب والأحلام والطموح، أمور لا تعد ولا تحصى، تبقى في حيز الغيبيات والمستقبل، فهل من المنطق أن نضع ما لا ندرك على رقابنا، ونُثقل كواهلنا به دون مبرر حقيقي "ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ"؟!.

ليس مرادف ذلك أن نقمع طموحنا، على العكس تماماً، إنها دعوة لاحتواء الحالات والمواقف بقوة المنطق وسلطة القلب، في كافة أمور حياتنا المختلفة، من اكتساب المعرفة عبر العلوم المختلفة إلى إتقان الخبرات عبر تجارب العمل ومجريات الحياة اليومية، فالمنطق يؤكد أنَّ المستقبل ليس الحاكم المطلق، بل اللحظة التي نعيشها أكثر أهمية من أي قادم، مهما صور لنا خيالنا أو طموحنا أو مشاعرنا "توقعاته"، إذًا لنعش اللحظة بجمالها، بعيدا عن سلوكيات يفرضها التوجس من الغيب، كالخوف من الخيانة أو عدم الثقة دون مبرر مادي، أو التنافس غير الشريف لبلوغ ما قد لا تبلغه، أو التنمر لاستشعار عظمة لن تصل إليها حقيقة، وهدر الكثير من الوقت الثمين في وضع ورسم وتصور مستقبل لست الوحيد فيه، بالتالي لن يخضع مهما اجتهدت لرغباتك وأحلامك الفردية، بل لمصلحة العموم، محققاً حكم الله علينا وقدره بالتعايش كجماعات، فالأحلام النافعة للجماعة الخالية من الأنانية والنرجسية هي التي تتحقق؛ فلكل رغبة أو هدف معايير نوازن بينها وبين جملة المنافع والأثر، فبدل بذل أيام وأسابيع في تخطيط أمرٍ ما، حاول أن تبذل كحد أقصى ربع إجمالي الوقت الذي تستغرقه عادة في وضع الخُطط، لإنهاء الأحداث الأساسية، ولتكن المرونة في تحقيق الأهداف والتدرج أمرا أساسيا في الوقت الذي تستهلكه، صدقاً قد تُنهي الكثير في أقل من ربع المدة التي تصورتها. إنَّ أية خطة محكمة وكاملة هي خطة فاشلة، وأي عمل آلي لا يحتمل غير ما قد تم تدوينه على الورق، هو مضيعة للوقت والجهد، وكذلك الأنظمة الصارمة المتعصبة، لا تأتي بثمار مهما تجملت بالمثالية والكمال، ولا تحقق التنمية المستدامة، لأنَّ المرونة أساس لا يُمكن الاستغناء عنه من أجل البقاء والتطور والنمو.  

إنَّ البيان في قول برايان "كن عنيدا بأهدافك، مرنًا بطرق تنفيذك" يُجسد أثر سلطة المستقبل علينا، وكيف أنه بالإمكان أن نقوض وهم النتائج المثالية، وتصور قدرات وهنة، مثل القدرة على التحكم بمجريات الأحداث دون منطق أو فكر متجدد يصنع التغيير ويبحث عن الجديد ليحقق نتائج مستمرة؛ علماً بأننا كأفراد نجسد منظومة الجماعة التي تمثل النهج العماني في حاضره ومستقبله، وإن استقامت الأنفس وازدانت بالإيثار والوعي، استقام وجودنا المحلي والعالمي، فالوطن بدون روح المواطن لن يشعر بالأمان والاستقرار، مما يعيق نمونا وانتشارنا اقتصاديا وفكريا، كما وأنَّ القعود خلف منصات "الطلب" و"المطالبة" و"النقد" والذم" في انتظار "الملعقة الذهبية"، دون جد واجتهاد وعمل وسعي، لهو خزي لا تستحقه عُمان الأبية العصامية، ولا تُجازى هكذا من صرفت علينا منذ المهد بخدماتها العديدة المجانية إلى أن اشتد عودنا، إنَّ لبرهان الولاء طرق عديدة، منها الانخراط والاشتغال الجاد، من أجل رخاء العيش، وترك الغريب الوحشي من سلوكيات تهدر الوقت والطاقات.

-------------------------------

جسر...

"ها هي الشمس في تمامها تحرق نفسها لأجلنا ونحن نتغزل بظلال القمر".