المحافظات والمحافظون.. وعبقرية اللامركزية!

حمد بن سالم العلوي

 

إنَّ اللامركزية الإدارية في المحافظات، والتي أتت وفقاً للمراسيم السُّلطانية التاريخية في 18 أغسطس 2020م، وإن القوانين التنظيمية التي ستوجبها تلك المراسيم التشريعية، قد أقرت بدء انطلاقة الرؤية المستقبلية 2040، وذلك في الشق المُتعلق بفصل المحافظات عن مركزية العاصمة (مسقط)؛ حيث أعطت لكل محافظ زبوره في يده، الأمر الذي سيُطلق العنان ليس إلى أصحاب المعالي والسعادة المحافظين، لكي يعملوا على خطط ورؤى "هم" يقدرونها وسيشرفون عليها مباشرة، وإنما كذلك أصحاب السعادة الولاة، والمشايخ والرشداء والأعيان، الذين سيجدون ما يفعلونه أمام أعينهم وبمسؤوليتهم، وتحت إشراف مُباشر من المحافظ والناس، وسيخلقون فيما بينهم تنافساً شريفاً، أكان ذلك على مستوى المحافظات، أو على مستوى المحافظة نفسها وما يتبعها من ولايات، انطلاقاً من المثل القائل، أهل مكة أدرى بشعابها.

إنَّ العُمانيين قد فُطِروا على العمل التنافسي الشريف، ويريدون أن يكونوا شيئاً مذكوراً في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والأدبية وحتى السياسية، وقد جرَّبنا ذلك من قبل في العمل التنافسي الجماعي والفردي، ولنا في شهري البلديات والزراعة خير مثال وشاهد على الأعمال الإبداعية والتطويرية، وقد سُجلت نجاحات باهرة إبان ذلك، ولا ننسى المنافسات التي تجريها وزارة التربية والتعليم في المسابقات العلمية والأدبية، ومسابقات النظافة بين إدارات المحافظات، وحتى بين المدارس ذاتها، وكلها مسابقات قد حالفها النجاح، وهذه فكرة ناجعة عندما نبدأ من مراحل التأسيس الأولى.

إنَّ نظام اللامركزية سينبثق عنه مُفاجآت إبداعية في كافة المجالات، وسيُسرِّع من وتيرة التنمية في كافة النواحي، وسيعمل الجميع بالأهداف المرسومة لهم، وبترتيب الأولويات وبرمجتها، والأهم في ذلك كله، نشر عدالة التنمية بين جميع المحافظات، ليس بالتساوي.. وإنما بالإنصاف، فقد تكون هناك محافظة من المحافظات تأخرت فيها التنمية، فيجب أن تعوض حتى تلحق بشقيقاتها، ذلك بعدما أصبح أو سيصبح لكل محافظة موازنتها الخاصة بها، وستتحقق ميزة الإشراف والمُراقبة السريعة والمباشرة، وذلك على دوائر الخدمات من قبل أصحاب المعالي والسعادة المحافظين، وأصحاب السعادة الولاة كل من موقعه وفي حدود اختصاصه، هذا بعدما تحقق انفصال هذه الدوائر عن المركزية المركَّزة التي كانت سائدة من قبل، وتحولت إلى الرئاسة المباشرة في الأقاليم، حيث يكون العمل يجري، وأمام أعين المسؤولين المباشرين.

لقد انتهت تلك الحيرة في التوفيق بين الرئاسة المركزية في "العاصمة" والأقاليم البعيدة في المحافظات، وهذه الحيرة لم تكن تشغل الموظفين وحسب، وإنما كانت تشغل المواطن بالدرجة الأولى، فقد كان يلاقي سلبية مذهلة من المرجعيات الإدارية للمحافظين والولاة، كحكام مباشرين لتلك الأقاليم، فكان أكثر شيء يقوم به هؤلاء المسؤولون، إعطاء رسائل تزكية ورجاء واستعطاف، فلا يستجاب لها مباشرة، وإنما ترسل إلى الرئاسات بطلب التوجيه، فيضيع وقت الناس وجهدهم وأموالهم بين (كاني وماني) كما يقال في الأمثال.

إذن؛ يحق لنا كمواطنين قبل المسؤولين، أن نفرح ونفخر بل ونشيد بهذا التنظيم الرائع، الذي منح المحافظات الاستقلالية الإدارية والمالية، فإنَّ هذا المنطلق التشريعي الجديد، سيُعطي دفعة قوية في تطوير الوطن ككل، بحيث يُشارك الكل في التنمية المستدامة بفكره وعقله وجهده وحتى بماله، هذا إذا اعتبرنا أنَّ عُمان تشكل لوحة كبرى، يرسمها الجميع بتناسق الأدوار وإبداع كل إنسان من محافظته، لكي تظهر في النهاية لوحة رائعة الجمال، وتمثل جهد الجميع، وفي نفس الوقت ستكون هذه الميادين المتنوعة، فرصة للتنافس وإبراز الكفاءات والقدرات، وسيكون أمام الدولة فرص وخيارات كثيرة لتقييم درجات النجاح، وسيتاح لها من خلال ذلك اختيار قادة المستقبل من بين المبدعين والمؤهلين، لأن كل عمل جيد سينسب إلى صاحبه، ولأنَّ اللامركزية الإدارية في المحافظات، ستتيح حرية العمل الوطني التنافسي.

إن الإنسان العُماني يجد القدرة لتحمل المسؤولية، وإن هناك الكثير من قصص الإبداع التي نعلمها والأكثر الذي لا نعلمه، حتى وإن حاول الفاشلون إثقال كفتهم، وذلك بإلصاق الفشل في غيرهم، فهناك أطباء مبدعون، وطيارون مبدعون، ومهندسون مبدعون، وفنيون مبدعون، حتى أن العاملين على الرافعات الشوكية في الموانئ الحديثة، قد أبدعوا وسابقوا الزمن في الإنجاز والاستيعاب، ذلك عندما سلمت للإنسان العُماني مسؤولية العمل فيها، ومنح الثقة اللازمة والضرورية التي تمكنه من العمل بإخلاص.

لقد أبهر جيل الشباب العُماني الدنيا بابتكاراتهم وغزارة علمهم، وإنهم سيبهروننا أكثر وأكثر متى ما وجدوا من يدعمهم، ويأخذ بأيديهم، وأذكر ذات مرة من المرات، عندما أوكل إلى مجموعة من الأشخاص عمل كبير وحساس، ولكن المشرف عليهم كان قلقاً على العمل، بسبب ضعف ثقته في نفسه فانعكست نظرته على غيره، فأراد أن يُطعِّم الفريق ببعض الوافدين، ولكنهم رفضوا بشدة أن يُشاركهم أحد في عملهم، وعندما أُنجز العمل، وأُتي بالمسؤولين المعنيين ليشاهدوا العرض النهائي، أبهرهم جمال العمل ودقته، وعندما سُئِل ذلك المسؤول الذي تولى شرح عمل غيره، عمَّن فعل هذا العمل؟ تلعثم وتمتم ببعض الكلمات غير المفهومة، وكان الفريق موجوداً في المكان، فلم يُشر إليهم، فربما خشي عليهم من التأنيب والعقاب، ولكنه تفاجأ وبإجماع الحضور بالقول؛ إنه عمل رائع ومُتقن، فخنقه الحبور.. وصمت!!

إذن فلنعطي للإنسان العُماني الفرصة لتحمل المسؤولية في قيادة الوطن، وألا نخاف عليه من الفشل، لأنَّ الفشل الذي يُرعبنا في عقول البعض، وليس هناك شيء منه على أرض الواقع، لكن بشرط أن نُحسن الاختيار، وتجربة إدارة المحافظات لذاتها، بداية الطريق إلى الثقة في الذات، وعبقرية تحسب من ضمن عبقرية القيادة الفذة الحكيمة، وستأتي النتائج باهرة - بإذن الله - ولكن أن نُحكم ضوابط الإشراف والمتابعة، وأن نُحسن إدارة المحاسبة بين الثواب والعقاب والعزل عند الضرورة، وألا نبطئ في اتخاذ القرارات المُناسبة في وقتها الصحيح، وألا نسمح بتكرار الأخطاء فوق المعقول، حتى نحقق العبرة والردع والاعتبار، وختاماً أعتذر من القارئ الكريم فقد تعمدت أن أسقط مواضيع كثيرة من خلال هذه المقالة، مستغلاً تقارب المواضيع والأهداف من بعضها البعض.. حفظ الله عُمان الأبية وسلطانها الأمين صاحب البصيرة النافذة وشعب عُمان الحر الكريم.

الأكثر قراءة