عبدالله العليان
منذ فترة وجيزة تابعت عن بُعد ندوةً حوارية عبر تقنية الاتصال المرئي "زووم"، بمناسبة مرور 40 عامًا على مشروع الدكتور محمد عابد الجابري، في "نقد العقل العربي" ومرور عقد على وفاته رحمه الله، واشتركَ في هذه الندوة الحوارية من المغرب: الدكتور أحمد مولاي صابر، ومن تونس: الباحث نادر حمّامي، ومن مصر: الكاتب جمال عمر.
وتوقَّعت أنْ تكون هذه الندوة على مستوى من التقييم العادل لمشروع الجابري لقضية نقد العقل، لكن كل التوقعات خابت لاستماع رؤية عقلانية عادلة، بغض النظر عن الاتفاق مع هذا المشروع أو لا، لكن النقد يفترض أن يكون موزونا وموضوعيا فيما طرحه الجابري؛ سواء في مسألة تقسيم العقل إلى عقل برهان، أو بيان، أو عرفان، أو حول ما كتبه عن التراث العربي، فيما نأخذ منه وفيما ندع، أو ما كتبه عن تفسير القرآن الكريم؛ سواء في الجزء الأول "مدخل إلى القرآن الكريم"، أو الأجزاء الثلاثة في التفسير الذي حمل عنوان "فهم القرآن الكريم".
لكنَّني فُوجِئت بأنَّ هناك اتفاقا وتناغماً في هذه الندوة، بين الباحث نادر حمّامي، والكاتب جمال عمر، وكأنهما رتبا نقدهما للجابري قبل الندوة مسبقاً، من خلال رؤية أيديولوجية وأحكام مسابقة للإساءة للرجل ومشروعه الضخم في نقد العقل العربي، وفي نقد الحداثة الغربية، لكن الدكتور المغربي المشارك في الندوة مولاي أحمد صابر، كان مُنصِفاً وموزونا بمنهجية عادلة تجاه الجابري وكتاباته عموماً، مع أنه كانت له رؤية أخرى تجاه بعض القضايا التي رآها تستحق من الجابري توسعة أكبر من الجابري؛ سواء في مشروع نقد العقل العربي، أو في تفسير القرآن الكريم، لأن الجابري كما عرفناه من خلال رؤيته، ينطلق من نقد واقع الأمة وظروفها وتراجعها واجتهد في ذلك، وأن له رؤيته تجاه التراث، وتجاه الحداثة. ويبدو أن الجابري خيَّب أمل بعض هؤلاء الذين كان يتوقعوا أن يكون الرجل نسخة من البعض الذين أرادوا أن نكون نسخة مكررة من فكر الغرب، ولا حل لنا إلا اتباعه والنقل عنه دون التميز والإبداع، وكان هذا القول حاموا حوله، إلى حد اتهام محمد عابد الجابري بأنه أصولي الفكر، وإسلامي التوجُّه! مع أنَّ الجابري تعرض للهجوم والنقد من بعض السلفيين، تكاد تقترب من التكفير.
ففي قضية التراث لم يكن الجابري مُعتدلاّ تجاه التراث، وميز بين التراث الحي والتراث الذي لم يعد نافعاً لعصرنا؛ فكان بحق مُنصِفاً تجاه مسألة التراث، ولم يكُن مثلما أشار البعض ممن أرادوا نسف تراث الأمة ورميه في سلة المهملات! وقال بالنص: "القطيعة مع التراث"، أو "القطيعة المنهجية"، لكن الجابري يختلف مع هذا المقولات والارتماء في أحضان فكر الآخر، وهو أيضا له فكره وتراثه ورؤيته، وبعد أقصى الكنيسة في القرن الثامن عشر، رجع إلى التراث الروماني، ينهل منه الأفكار المادية، التي تناقض الكنيسة.
ويقول الجابري أيضاً إنَّ بعض الكتاب لم يتوانوا في نقد الاهتمام بالتراث، واعتبار هذا الاهتمام عودة للخلف، أو تراجعا عن مطلب التقدم، وأن: "الذين يقولون هذا يشتكون من أن هذا الاهتمام بـ"التراث" وقضاياه يصرف عن الاهتمام بـ"الحداثة" ومتطلباتها". إنَّهم يرون أو يتخيلون أن التراث العربي الإسلامي هو، ككل تراث، مجرد بضاعة تنتمي إلى الماضي، ويجب أن تبقى في الماضي؛ وبالتالي فلا يشتغل بها -إذا كان لابد- إلا المختصون الأكاديميون في دراسة شؤون الماضي، وفي هذه الحالة يجب أن ينحصر الاهتمام به في إطار قاعات الدرس الجامعي وصفحات المجلات العلمية المختصة وحدها. وبعبارة أخرى أنَّ هؤلاء المُشتكين من اهتمام المفكرين العرب المعاصرين بالتراث، هذا الاهتمام "الزائد" يعتقدون أن ذلك يتم على حساب الاهتمام بـ"الحداثة".
وفي قضية الحداثة، اعتبَر الباحث نادر حمّامي في الندوة: أن الجابري ينتقد الحداثة، ويرى عدم اندماجنا فيها من أخطاء الجابري، "لأن الحداثة كونية عالمية"!، ولهذا اعتبر مشروع الجابري ناقصاً عمَّا تطلبه الأمة من نهضة! لكنَّ الجابري يرى في كتابه "التراث والحداثة" أن القبول بالحداثة لا يعني التماهي معها، في كل رؤيتها الفلسفية، التي كانت منطلقة من ردة الفعل على موروثات، كانت عائقة للتقدُّم في أوروبا، وتمَّ إرساء نهضة بعد قرون من التخلف بعد عصر الأنوار في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، كما أن تراث الأمة ساكن فينا، وعلينا أن ندرسه، وننظر فيما هو فاعل ودافع للنهضة والتقدم، لذلك فلا يمكن إهمال هذا التراث الضخم، أو القطيعة معه، كما أن "الحداثة" في نظرنا لا تعني رفض التراث ولا القطيعة مع الماضي، بقدر ما تعني الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث إلى مستوى ما نسميه بـ"المعاصرة".
لكنَّ الأغرب فيما قاله نادر حمّامي أنَّ الجابري لم يهتم بما كتبه المستشرقون فيما سمَّاه بـ"الدراسات القرآنية"، عندما كتب مؤلفاته عن تفسير القرآن! وربما اعتبر ما قاله الاستشراق هو الحق والصواب -في نظر حمّامي- لكن مِمَّا يُستغرب له إلى حدِّ الاستفزاز، ما قاله نادر حمّامي من "أنَّ الذي بين أيدينا اليوم هو المصحف وليس القرآن"؟!! وهذا هو الشيء الذي جعله يصدق ما يقوله المستشرقون فيما سماه بالدراسات القرآنية، فالمصحف لا ينفصل عن القرآن الكريم. فهو -كما يقول د. محمود بن أحمد الدوسري: "اسمٌ للمكتوبِ من القرآن الكريم، المجموع بين الدَّفَّتين، و"القرآن" اسمٌ لكلامِ الله تعالى المكتوبِ في المصاحف، وقيل للقرآن مصحف؛ لأنَّه جُمِعَ من الصَّحائِف المتفرِّقة في أيدي الصَّحابة". فهذا الكلام الغريب، يبرز أنَّ حمّامي قرأ لبعض من المستشرقين، واعتبر أن ما قالوه هو الحق الذي لا راد له، وهذا يبرز غياب المنهجية والموضوعية!
ولله الأمر من قبل ومن بعد...،