جدتي المُؤمِنة

عبدالله الفارسي

 

يقولون: "إذا كنت لا تستطيع الكتابة عن مصائبك، فبإمكانك أن تكتب عن جدتك"!!

لذا؛ سأحدِّثكم اليوم عن قصتي المؤلمة مع جدتي المؤمنة. إنَّها ذكرى مؤلمة لم تتوقف، إنه تأنيب ضمير لم ينطفئ، ما زال مشتعلا في داخلي، محترقا في روحي، وسيظل كذلك حتى الرمق الأخير حتى الشهقة الأخيرة، فهناك جروح لا تندمل وعثرات لا تُنسى.

الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يتألَّم من الماضي، ويتألم من الحاضر، ويتألم من المستقبل.. هذا المخلوق العجيب الذي نزل إلى الأرض ليتعذَّب ويعيش ويتألم، يا له من مخلوق خارق يستحق أن تَسجُد له الملائكة فهو يحتمل من الألم ما لم تحتمله الملائكة. نعم؛ فالملائكة لا تملك تلك الأجهزة العصبية التي توخز الضمير وتجلد الروح، إنها بأمان تام من المشاعر والأحاسيس والدموع.

الجدات كائنات سماوية روحانية، إنَّهن أيقونات الحب والرقة والحنان. الجدة أم ثانية وأحيانا تتقدم الأم في المرتبة، قلبها يتدفق حُبًّا وحنانا على أحفادها.. حب يتجاوز حب الأم، وحنان يعلو حنان الأم، إنهن حقا مخلوقات سماويات ملائكيات.

تُوفِّيت جدتي في العام 1977 إثر إصابة في عينها اليمنى؛ عانت بسببها آلاما وأوجاعا لم يتحملها جسدها الضعيف وروحها الرقيقة الهشة. كُنت حينها في التاسعة من عمري. كنت طفلا شقيا، كنت شيطانا صغيرا، أعبث في كل شيء وأدمِّر كل شيء أمامي، كنت ماكينة تكسير وتخريب!

كانت أمي تحملُ عصًى لأجلي، كانت عصاها لا تفارق يدها لأجل تأديبي وإسكات مشاغباتي وإطفاء شيطنتي وإيقاف تخريبي. فكان صَدر جدتي هو ملاذي الآمن من عصَى أمي، كانت تحميني وتخفيني عن أمي وتقف سدًّا مانعًا أمام غضب أمي وعصاها. فكل يوم أحصل على ما لا يقل عن عشرين جلدة من عصى أمي القارسة كل صباح.

وفي المساء، أمسح ظَهري ومُؤخرتي، وأنام وأنهض في الصباح وكأنَّ شيئا لم يكن، جاهزا لاستقبال المزيد من الجلد والضرب ولسعات العصى. كُنت أستخدم يدي بشكل عجيب، فكأنَّ شيطانا كان يستوطن يدي اليمنى، أكسر بها كل شيء، والأخطر أنني كنت أرمي بها كل شيء، كان الحصى مُلتصِقا بيدي اليمنى أضرب به كل ما أراه أمامي: القطط، الكلاب، الطيور، كُنت مجرما صغيرا، ولم تختفِ هذه الشيطنة عني إلا بعد أن حدث معي حدثٌ مؤلمٌ، حدث مؤسف، فانقلبت بعدها إلى شخص آخر وكائنٍ مختلف تماما عما كنت قبلا.

في صباح حزين مُزعج لا أنساه أبدا، كان الشيطان يربض في يدي ويمرح في شراييني، كنت أصوِّب الحصى على حفرة فوق باب غرفة جدتي، كانت تلك الحفرة شَبَحا دائما لتصويباتي الدقيقة. كنت أرمي الحصى بقوة شديدة وأبتهج كلما أصبت الحفرة، فجأة وفي لحظة قدرية مكتوبة خرجت جدتي المسكينة من باب غرفتها في نفس اللحظة التي أطلقت فيها حصاتي الملعونة بقوة الرصاصة، فأخطأت الهدف فوقعت على عينِ جدتي اليمنى، فصرَخَتْ متألمة متوجعة باكية.

فركضتْ أمي من مطبخها نحو جدتي، وأمسكتها قبل أن تسقط، مدَّدتها على ظهرها، ومسحت عينها بوشاحها المتسخ، وأحضرتْ لها ماءً وملحا غسلت مكان الإصابة، وحاولت إيقاف تدفق الدم، وجدتي تتألم وتَئِن وتتوجع وتسبِّح وتحوقل. وأنا لم أتحرك من مكاني، أصبحتُ تمثالا طينيا صلبا منصوبا في حوش البيت، أصبحت صنما لا يرمش ولا يهمس ولا يتنفس.

جاءت أمي مشتعلة غاضبة تحمل عصاها، وانهالت عليَّ ضربا وركلا وشتما وبصقا، وأنا لا أشعر بشيء، كُنت واقفًا جامدًا كصخرة، كنت أفكر في جدتي، جدتي المسكينة الرقيقة. وحين أدركت أن جدتي فقدت عينها فقدتُ كلَّ سعادتي وفقدت كل طفولتي، وتحوَّلتُ فجأة من طفل صغير مشاكس مَرِح مشاغب إلى رجل هرم، كبير حزين، ملتاع مكظوم.

فقدتْ جدتي عينها بسببي، ومع ذلك كانت تحضنني وتقول لي بكل سكينة: "لا عليك يا حبيبي، هذا أمر الله يا حبيبي، لا تحزن، ما زالت لديَّ عين أخرى تفي بالغرض".

كانتْ عينها اليمنى تنزفُ قَيْحا ودمًا، وكانت تقبلني وتداعبني، كانتْ تتألم ألمًا فظيعا في الجانب الأيمن من وجهها؛ لكنها كانت تُخفي ألمها وتدفن وجعها وعذابها عنَّا جميعا، كانت تضحك معي وتداعبني.

يالله... أية مخلوقة أنت يا جدتي الحبيبة؟! أي روح تملكين؟! أي صبر تحملين؟! وأي إيمان تدسين في قلبك؟! وأي جمال وعظمة تسكن صدرك؟!

بعد عدة أشهر من مُعاناة جدتي، نهضت صباحا على صُراخ وبكاء أمي وخالاتي، لقد ماتتْ جدتي مُتأثرة بذلك الجرح العميق الذي سببته لها في عينها، ركضتُ نحو جسدها المُسجى في فراشها، المغطَّى بشالها الأحمر الجميل، كانت غُرفتها تعبق برائحتها الجميلة، رائحة (نبات) الورس الذي كانت تدهن به ثيابها وفراشها وسجادتها العتيقة.

سَحبتُ الوشاح الذي يُغطِّي وجهها، وحضنتها، ولثمتها، ومت في جسدها.. التصقت بها، قلت لهم دعوني معها، ادفونني معها.

حاولت النسوة انتزاعي من جسدها النحيل فلم يستطعن لذلك سبيلا، فجاء أبي وأخي ورفعاني من فوقها واقتلعاني من جسدها ورائحتها.

من شِدَّة لوعتي وحزني عليها، أنَّبَني ضميري، وجلدني وعذبني عذابا عنيفا، فقرَّرت قطع يدي اليمنى يدي المجرمة التي اعتدت على أجمل وأرق مخلوقة كانت في عالمي. أحضرتُ سِكينا حادة ووضعت يدي اليمنى على عتبة الباب، وقبضت السكين بيدي اليسرى، وحاولت أن أضع السكين على معصمي، لكنَّ يدي اليسرى لم يكن هناك "شيطان" يَسكنها؛ كانت يدًا طيبة رقيقة، هادئة مطيعة؛ فانتفضتْ وارتعشتْ، ولم تتمكَّن من قطع أختها، فسقطت السكين منها.

دخل أبي فجأة ورآني على تلك الهيئة؛ فهرع نحوي وأبعد السكين عني وحَضَنني، وقال لي بكل هدوء وخشوع ويقين: "جدتك كبيرة في السن، لقد ماتت وانتقلت إلى رحمة ربها.. أنت لم تَقتلها؛ لكن الله اختارها لتكمل حياتها في ذلك العالم الجميل، فلا تعذِّب نفسك، جدتك الآن في سعادة كبيرة وراحة عظيمة".

فقدتُ بفقدانها قسطًا كبيرًا من الحنان، وكمًّا هائلا من الحب، كانتْ تُزوِّدني به جدتي، وتحقنني به آناء الليل وأطراف النهار.

------------------

الجدة.. حب لا يُوصف، ورحمة لا تتوقف.

جدتي.. سامحيني أيَّتها العظيمة؛ سامحيني أيَّتها الرقيقة الحميمة الرؤومة، كَم أشتاق إلى حضنك، وكم أشتهي رائحة الحب في صدرك، جدتي لا أريد لهذا التأنيب أن ينتهي، لا أريده أن ينطفئ، لا أريده أن يذوب أو يخمد أو ينتهي.. أعدك بأنني سأظل مشتعلا محترقا بالندم حتى ألقاكِ.

رحمك الله رحمة واسعة...،